{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ}[النحل:٧٦] وهذا المثل أوضح من الأول {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ}[النحل:٧٦] هذا الطرف الأول للمثل، والأبكم هو الإنسان الذي لا يتكلم ولا يُحب، وإنما يحب المرء لمنطقه، والإنسان إذا تكلم أعرب عن حبه وشكره وامتنانه؛ فله مكانة في القلوب، لكن الأبكم الذي لا يصارحك، ولا ينادمك، ولا يسامرك كعمود من خشب، إذا جلس معك لا تأنس به ولا تشعر بوجوده.
أبكم لا يقدر على شيء! وهو عبد، فالمناسب أن يخدم العبد سيده، وليس سيده هو الذي يخدمه، فهذه مصيبة أخرى! وهو كّلٌّ على مولاه، يأكل ويشرب فقط فليته يشكر أو يعرب عن هذا الجميل لكنه أبكم، فأنت لا تشعر بأي مزية له بل إنك تخدمه وأنت متضرر، فالأصل أنه هو الذي جاء ليخدمك فإذا بك تخدمه، فإن بدا لك أن ترسله إلى جهة معينة فلابد أن يأتيك بمصيبة ولعل هذا معنى:(أينما يوجهه لا يأت بخير).
هل يستوي هذا مع الطرف الثاني من المثل وهو الذي يأمر بالعدل وهو على صراط المستقيم؟ يا للوضوح! هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل؟! ففي الطرف الأول من المثل أربع صفات: أبكم، لا يقدر على شيء، وهو كلٌّ على مولاه، أينما يوجه لا يأت بخير.
أما الطرف الثاني: ففيه من الصفات ما يقابل هذه الأربع وزيادة (هل يستوي هو ومن يأمر) فلا يكون آمراً إلا متكلماً، ولا يكون آمراً إلا إذا كان في جهة عليا وقادر على إمضاء أمره، فهو متكلم في مقابل أبكم لا يقدر على شيء، والآمر يقدر ولو لم يكن يقدر لما كان للأمر معنى، يأمر بالعدل، فلا يستطيع أن يأمر بالعدل إلا إذا كان عالماً بالفرق بين العدل والجور، {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[النحل:٧٦] أي: ليس كهذا الذي أينما توجهه لا يأت بخير؛ لأنه على صراط مستقيم، فالمسألة في غاية الوضوح.