قال:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ}[النحل:٧٥] هذا الطرف الأول للمثل، {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا}[النحل:٧٥] هذا الطرف الثاني، والمثل في العادة لابد أن يكون له طرفان، ثم قال:{هَلْ يَسْتَوُونَ}[النحل:٧٥] فالمثل واضح، ثم من الحكمة والبلاغة أن لا يُعيَّن الجواب {هَلْ يَسْتَوُونَ}[النحل:٧٥]؟ فلا جواب؛ لأنه واضح، فالمثل في غاية الوضوح، عبد لا يملك من أمر نفسه شيئاً، وزاد الله عز وجل في بيان عجزه أن قال:{لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ}[النحل:٧٥] مع أننا نعلم أن العبد لا يقدر على شيء، حتى إن بعض العلماء لم يعتد بشهادة العبد، قالوا: لأن سيده يمكن أن يمنعه من أداء الشهادة، فلا يعتد بشهادته؛ لأنه لا يملك من أمر نفسه شيئاً، ومع ذلك فإن بعض العبيد قد يملك من الأمر ولو شيئاً جزئياً، إنما هذا العبد المضروب به المثل لا يملك شيئاً قط، رجل مكبل مقيد، هل يستوي هذا الرجل مع آخر آتيناه رزقاً حسناً وأعطيناه؟ فهذا يملك المال فهو ينفق منه سراً وجهراً، إذن عنده إرادة في النفقة، وإرادة النفقة يقابلها عجز ذلك العبد الآخر الذي لا يملك شيئاً على الإطلاق، حتى لو أراد.
(هل يستوون؟) لم يقل رب العالمين: لا يستوون؛ لأن ترك الجواب هنا أبلغ، والإبهام دليل الإعظام والفخامة، كما في قصة يوسف عليه السلام لما كاد له الله عز وجل ووضع صواع الملك في رحل أخيه ونادوا في الناس: إننا نفقد هذا الصواع {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}[يوسف:٧١ - ٧٢] فلما اتهمهم قال لهم: {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ}[يوسف:٧٤] إن وجدنا الصواع في رحل أحدكم فما جزاؤه؟ فلأنهم كانوا متأكدين مائة بالمائة أنهم لم يسرقوا أبهموا الجزاء:{قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ}[يوسف:٧٥] ما تعملونه به فهو جائز لكم.
ولو علموا أن السارق منهم لعينوا العقوبة وقالوا: يجلد أو يضرب أو يسجن، لكنهم لثقتهم أن السارق ليس منهم أرادوا أن يفخموا العقوبة فأبهموها:{قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ}[يوسف:٧٥].
وكذلك الرجل الذي ذكر أهل التفسير حكايته:(أنه كان من المستضعفين، وكان رجلاً كبير السن، فلما تذكر إخوانه المهاجرين في المدينة واجتماعهم، ووجد أنه يفتقد الأخوة، ويعيش في وسط هؤلاء الكافرين، مع أن الله وضع الهجرة عن أمثاله، خرج -رغم شيخوخته وعجزه- مهاجراً من مكة إلى المدينة ماشياً فأدركه الموت في الطريق، فلما أحس بذلك ضرب كفاً بكف وقال: اللهم هذه بيعتي لك، اللهم هذه بيعتي لنبيك ومات، فأنزل الله عز وجل في شأنه:{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}[النساء:١٠٠] لم يعين له جزاء إنما أبهم الجزاء للإعظام.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور المتفق عليه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله) ولم يعين جزاء، فمثل هذا السكوت والإبهام دليل الفخامة والإعظام.
(هل يستوون)؟ بعد ضرب المثل لا يستوون عند أي إنسان، فالجواب واحد عند كل من يسمع هذا المثل إن كان عاقلاً:(لا يستوون) فالحمد لله أن جعل من سنته وحكمته أن لا يستوي العبد العاجز مع الحرّ الصالح، فتنزه رب العالمين أن يساوي بين المسلمين والمجرمين، فكمال عدله يأبى ذلك، وهناك جواب آخر في قوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ}[النحل:٧٥] أي: الذي ضيَّع موضع الحجة على المشركين فضيع لهم الفرق بين المثلين مع الوضوح، وهذا من منن الله عز وجل أن لا يرزق كافراً حجة حتى لا يلبس على الذين آمنوا، قال صلى الله عليه وسلم:(أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان، يجادل بالقرآن) وهذا النمط موجود لكن كانوا قديماً كالفئران لا يخرجون من الجحور، فلما قلّ عدد العلماء ظهر أمثال هؤلاء وكانوا يتوارون قبل ذلك.
إن وجود النفاق دلالة على قوة الإسلام، وإن وجود الكفر دلالة على ضعف المسلمين، فالكفر لا يظهر أبداً إلا مع الضعف، والنفاق لا يظهر إلا مع القوة.
في مكة لم يكن ثمة نفاق على الإطلاق، بل كان إيمان وكفر، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وصارت له دولة ظهر النفاق، فالمنافق كافر لكن يريد أن يحفظ دمه، ويريد أن يستفيد بذلك، ولا يستطيع مع هذه الشوكة أن يظهر عقيدته، فيبطن الكفر ويظهر الإسلام.