[علو الهمة خلق أسلافنا]
سأل سائلٌ فقال: كلما قرأت في تراجم أسلافنا في جدهم وعزمهم وقوة إيمانهم، وأردت أن أقلدهم فيما يفعلون أفشل، وأنا صادق في الطلب، لست بمراءٍ، أريد أن أقتفي أثرهم، لكنني أرجع مثل موجٍ منكسرٍ أو جيش منهزم فما هو الفرق؟ ولماذا أرجع منهزماً، وهم يظفرون الجولة بعد الجولة؟! نقول: اعلم -أيها المحب- أن الفارق هو علو الهمة، فعلو الهمة يورثك طول النفس، وقد كان أسلافنا كلهم أصحاب همم عالية.
كان الشيخ سعيد الحلبي -وهو قريب العهد منا- يلقي درسه في مسجدٍ بدمشق، فدخل عليه إبراهيم باشا الكبير وكان الشيخ ماداً رجله وهو يلقي الدرس، فدخل إبراهيم باشا فلم يغير الشيخ هيئته، فتألم إبراهيم وكظم غيظه وانصرف، ثم أرسل له بألف ليرة ذهبية، فرد الشيخ الحلبي هذه الدنانير الذهبية ومعها رساله قصيرة يقول فيها: (إن من يمد رجله لا يمد يده).
إذاً: مد رجله كان مقصوداً، فهكذا عزتهم بالعلم، ما كانوا يطمحون لدنيا؛ فما فُل شيءٌ من عزمهم ولا كُسِرت شوكتهم.
لكن خساسة الهمم غزت كل مجالات حياتنا، ولنضرب لذلك مثلاً: ما نشر في جرائدنا الرسمية وغير الرسمية: مأتم وعويل لماذا؟ لمصرع أشهر زانيةٍ في القرن العشرين! أهلكها الله عز وجل، فقامت الصحف وصدرت الصفحات الأولى عن حياتها ومآثرها.
ومن المبكي حقاً: أنه في اليوم الثالث من ربيع الثاني، سنة ألف وأربعمائة وثمانية عشر هجرية، رحل عن دنيانا أحد الأفذاذ الكبار من أساتذتنا، كان نجماً من نجوم الأدب والدفاع عن الإسلام في مصر والعالم كله على مدار ستين عاماً: الشيخ الإمام الكبير العلم -طيب الله ثراه، وسقا جدثه- الشيخ أبو فهر محمود محمد شاكر رحمه الله.
هذا الرجل الفذ مات ولم يحرك الإعلام ساكناً، برغم أنه كان نجم الأدب، وكانت له قناةٌ لا تلين، فقد ترك الجامعة، ليرد على أستاذه طه حسين في مزاعمه في الشعر الجاهلي، وكان طه حسين أستاذ محمود شاكر، فترك الجامعة ليرد عليه، ورد عليه وانتصف منه سنة ألف وتسعمائة وستة وثلاثين، والرجل يكتب ويدافع، ووقف وقفةً بطولية ضد من سموه أستاذ الدين: أحمد صبحي السيد، وعبد العزيز فهمي وغيرهم.
هؤلاء أرادوا أن يحولوا اللغة العربية إلى اللغة العامية، وأن يستبدلوا الحروف العربية بالحروف اللاتينية، فوقف ضد هؤلاء وقفة شامخة، وكان كالجبل الأشم، ورحل الشيخ محمود شاكر ولم يحرك الإعلام ساكناً حتى وزارة الثقافة -الذي هو يعتبر رأسها، وهو الذي زانها- لم تنع الرجل، وهو لا يحتاج إليها بطبيعة الحال.
وزارة الثقافة لم تدفع له ثمن الكشف، بل وزارة الثقافة في الكويت هي التي دفعت تكاليف الكشف في غرفة الإنعاش وغرفة العناية المركزة لهذا العالم.
عقوق مستمر وجحود للكبار.
عش مجبراً أو غير مجبر فالخلق مربوطٌ مقدر والخير يهمس بينهم ويقام للسوءات منبر هكذا يقال: (للسوءات منبر)، أما الخير فيهمس به بينهم، فيموت الرجل ويرحل عن دنيانا، ولا أحد يذكره! هكذا فليكن العقوق، هكذا فليكن الجحود ونكران الجميل! لكن الرجل -أحسبه والله حسيبه- ما كان يرجو من هؤلاء مدحاً ولا جزاءً ولا شكوراً، لكن هذا نمط يغزو حياتنا كلها، عقوق لعلمائنا وجحود لفضلهم.