[التزام أمره صلى الله عليه وسلم ووجوب طاعته]
وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: كل شيءٍ أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو في القرآن، وقد ورد هذا في القرآن صريحاً كما في سورة النساء، فأغلبه يدور على هذا المعنى، الذي هو من أول قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:٥٨] إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:٦٩] فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:٥٩]، فذكر الفعل مع لفظ الجلالة، وذكر الفعل مع الرسول، وأخلاه من أولي الأمر، ولم يقل: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر)، فدلنا ذلك على أن طاعته تبارك وتعالى واجبة، وطاعته صلى الله عليه وسلم واجبة، وطاعة أولي الأمر خاضعة وتابعة لطاعة الله ورسوله، وليست مستقلة، فأوجب علينا تبارك وتعالى هذه الطاعة.
ثم قال بعد ذلك: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:٦٦ - ٦٨].
يعني: لو أن الله عز وجل كتب عليك أن اقتل نفسك، فلا ينبغي لك أن تتردد، أو اخرج من دارك، فلا ينبغي لك أن تتردد، لو فعلت ما توعظ به لكان خيراً لك، حسن ما هو هذا الخير؟ ختمت هذه الفقرة بالبشارة وبالأجر، أن من أطاع الله ورسوله ولو أدت هذه الطاعة إلى هلاك نفسه، وإلى خروجه من ماله، وخروجه من داره، فهذا الرجل قال فيه الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} [النساء:٦٩ - ٧٠].
فهذا هو الأجر، والتكاليف الشرعية في جملتها طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه جماعة من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثةٌ يحتجون على الله يوم القيامة: الشيخ الهرم الذي جاء الإسلام ولا يعقل، يقول: يا رب! جاء نبيك ولا أدري شيئاً، والمجنون، والصغير -فهؤلاء يحتجون على الله، يعني: لو كنا عقلاء وجاءنا الرسول لآمنا- فيقول الله عز وجل: ألئن أرسلت إليكم رسولاً تؤمنون به؟ قالوا: أجل.
فأرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار)، إذاً فجملة التكاليف الشرعية لهؤلاء هي امتثالهم لأمر ربهم بدخول النار.
إن الحرب الضروس على الملتزمين المتدينين لشيء عجيب!! قال الأولون: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:٥٦]، أهي جريمة أن أتطهر؟! مثال واقعي: شاب كان يغازل البنات أو كان في عصابة إجرامية، لا يصلي، فأول ما بدأ يلتزم وأعفى لحيته وواظب على حضور صلاة الجماعة في المسجد، وترك الربا، فبدلاً من أن يفرحوا بتوبته والتزامه، إذا بهم يشعلون الحرب ضده لماذا؟ بأي عقل؟ وفتاة منتقبة تقوم عليها الحرب، وتقوم عليها الأسرة الواسعة الطويلة العريضة، ويجبرونها على خلع نقابها لماذا؟! فهذا الملتزم يعاني من البلاء بسبب التزامه بدين الله، وقد يضحي برقبته في سبيل الله، وقد يسجن ولا يخرج إلا محمولاً على الأعناق، وقد يسجن ويخرج وهو مصاب بأمراض، ومعه عاهات، ومع ذلك هو ثابتٌ على الطريق، كل هذا لو جمعته لساوى النار؛ نار الابتلاء التي ابتلى الله بها أولئك المحتجين عليه بالصغر وبالجنون وبالكبر الذي لا يعقل صاحبه شيئاً.
يقول عليه الصلاة والسلام: (فيرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار، فمن أبى أن يدخلها سحب إليها، ومن دخلها وجدها برداً وسلاماً)، يعني: هذا الذي أبى الدخول في النار لو عاش، وكان سليم الأعضاء وجاءه نبي لعارضه، قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:٢٨].
فحب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، المقصود به حب الاختيار، الذي يمليه العقل والإيمان.