للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[رحلة إبراهيم عليه السلام في الكون]

الكفر هو الجنس الأول الذي يسعى الشيطان إليه، والعاصم منه أن تحب ربك وتواليه، وأن تجعل محور حياتك يدور عليه، فتحب الذي يحبه، وتكره الذي يكرهه، ولا تفعل الأمر إلا إذا أُمِرت، وإذا نهيت فلا تستر على الفعل، فهذا هو العاصم.

واعتبر بقصة الخليل عليه السلام الحنيف، قال الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} [الأنعام:٧٤] الإله مشتق مِن وَلَهَ، والوَلَه: شدة التعلق، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام:٧٤].

ثم بدأت رحلة إبراهيم الذي لم يعرف في الكون إلا الله، فجعل إبراهيم عليه السلام يبحث عن مثال في الكون لإلهه الذي يعبده.

وقد اتفق أهل الأرض جميعاً على نسبة الجمال إلى الله، فكلما رأوا شيئاً جميلاً عَلَت أصواتهم: الله! فصار ذكر الله عَلَماً على كل جميل بكل اللغات.

فإبراهيم عليه السلام الذي لا يعرف إلا الله يجده في ضميره وفي نفسه، فيريد أن يبحث له في الكون عن مثال.

فمن عانى هذه القضية ظل مسهَّد الطرف لا ينام، في كل ليلة يرعى النجم، لا يكتحل طرفه بنوم.

{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام:٧٦] جَنَّ: يعني: صار في كبد الليل وأشده ظلمة، في وقت تنام فيه العيون، وتهجع الأبدان، هو مسهد الطرف لا ينام، يبحث عن مثالٍ لإلهه الذي يحبه، ويجده في صدره وقلبه.

{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام:٧٦] وهذا فيه إشعار كأنْ ليس في الكون غيره، هو الذي لفَّه الليل بظلامه وسدوله: {رَأَى كَوْكَباً} [الأنعام:٧٦] في هذا الظلام الدامس يرى شيئاً يلمع.

إذاً: ما هو أجمل شيء في الكون في هذا الظلام؟ هذا النجم، إذاً: هو ربي؛ لأنه لا أجمل منه، ولا أفضل منه يصل إليه طرفي إلا هذا النجم المضيء الذي بيني وبينه ملايين الأميال.

إذاً: هذا الجميل في الكون هو ربي: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:٧٦].

لماذا؟ لأن إلهه الذي يحبه لم يغب عنه طرفة عين، فإذا غاب هذا عني، فأنا أكون في غربة عظيمة، الأنسُ بالله رأس مال الأولياء، ولذلك يطاردونهم ويعذبونهم ويشردونهم ولا يشعرون بوحشة قط.

لماذا؟ لأن الله ما غاب عنهم قط، إنما الأنس يتم به.

ذكر الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء خبراً عظيماً -اقشعر له جلدي لما قرأته- لبعض العلماء أيام الإمام الدارقطني رحمه الله كان يعادي أمراء الدولة، فقبضوا عليه وجاءوا به وقالوا: بلغنا أنك تقول عنا: لو كان عندي عشرة أسهم لرميتكم بسهم، وفي الروم بتسعة أسهم.

أصحيح هذا الكلام؟ قال: بل قلت: لو كان معي عشرة أسهم لرميتكم بتسعة وجعلت في الروم واحداً، قال: فأخذوه، فسلخوه وهو حي، فلما وصلوا إلى وجهه قال: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} [الإسراء:٥٨] وكان الدارقطني رحمه الله إذا ذكر هذا الرجل بكى.

رجل يُسْلَخ وهو حي ما الذي صبَّره؟ الأنس بالله الذي يجده.

مَن أنِسَ بالله لم يشعر بفَقْد المخلوقين؛ لكننا نحن نشعر بوحشة السجن والحبس؛ لأن الله ليس معنا، ولا نستشعره في ضمائرنا، لذلك يغيب عنا.

وقد أبى إبراهيم عليه السلام أن يتخذ إلهاً غائباً، لما أفل: {قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:٧٦] فأبى أن يكون إلهاً.

ولذلك بهذه النقطة تستشعر لماذا يطول الليل على المرضى؟ مع أن الليل قد يكون قصيراً كلَيل الصيف مثلاً، واليوم طويل، والألم يسري في بدن الرجل نهاراً وليلاً؛ لكن يعظم وطء المرض عليه بالليل، لماذا؟ لأنه لا يجد أنيساً، وكان الذي يقصر عليه مدة الألم في النهار ويهوِّن عليه الألم هو دخول الناس وخروجهم، هذا يدخل فيسليه، وهذا يعزيه، وهذا يأمره بالصبر، وهذا يضحك معه، وهذا يمازحه، فيشعر أنه محل أفئدة الناس فيصبر، أما إذا انصرف الناس عنه ووجد نفسه وحيداً فهنا يشعر بالوحشة ويحس بوقع الألم.

فكذلك الذي لا يكون الله عز وجل معه دائماً هو في وحشة من جلده فضلاً عن أن يكون في وحشة من أبناء جنسه.

{فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:٧٧] وابتهج؛ لأنه أوضح من النجم وأكبر وأشد لمعاناً {قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:٧٧].

إذاً: كلما وجد شيئاً أجمل قال: هذا ربي: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً} [الأنعام:٧٧ - ٧٨] طوال الليل لم يكتحل بنوم؛ لأنه يبحث عن مثال لإلهه الذي يعبده.

{فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:٧٨] هذا هو، هذا أكبر، ليس لأنه أشد لمعاناً وأعظم توهجاً، بل لأنه أكبر.

{فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:٧٨ - ٧٩] فظهرت له العلامة، ليس هناك شيء في الكون يصلح أن يكون إلهاً يعبده.

إذاً: وظف إبراهيم عليه السلام كل حواسه للبحث عن إلهه الذي يعبده.

إذاً: كلما ازددت تعلقاً بربك كلما فَرَق الشيطان منك ويئس من المحاولة: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:٨٢ - ٨٣].

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.