قال:(ولا فتح عبدٌ باب مسألةٌ إلا فتح الله عليه باب ذل): وهذا -واللهِ- حق.
وانظر إلى أي شَحَّاذ الآن! قبل أن يمتهن هذه المهنة القبيحة الرديئة، هل كان يتخيل أنه يمكن أن يُقَبِّل نعلَك بعشرة قروش؟! ما كان يتخيل هذا لا في عشرة قروش ولا عشرة جنيهات بل ولا أكثر من ذلك، إذ ما قيمتها، وهو يظل يترجى برغم أنه ليس محتاجاً، وحتى وإن كان كذلك فقد أراق ماء وجهه، فيرده مَن هو أحقر منه، وهذا ذُلٌّ، يظل يسأل الناس فيردونه أو يعطونه، والذي يعطيه يكلِّح في وجهه ولا تكاد ترى رجلاً يعطي الشحاذ من أول مرة، بل يقول: الله يفتح عليك، ولا يعطيه إلا بعدما يكاد الشحاذ يمسك بتلابيبه ويقول: اعمل معروفاً، أريد أن آكل، أريد أن أشرب، فيعطيه المال وهو كاره، فهذا منتهى الذل.
ففَتَح هذا على نفسه باب مسألةٍ فأراق ماء وجهه على كل الأعتاب، حتى على عتبة اللئيم الذي لا يستحق التكريم، لذلك يجب أن يتعفف الإنسان.
الإمام الشافعي رحمه الله له أبيات رائعة في العفة، وفي صَوْن النفس عن المهانة، قال رحمه الله: لقَلْعُ ضِرْسٍ وضَرْبُ حبسٍ ونزْعُ نفسٍ ورَدُّ أمْسِ وقَرُّ بَرْدٍ وقَوْدُ فردٍ ودَبْغُ جلدٍ بغير شمْسِ ونفْخُ نارٍ وحَمْلُ عارٍ وَبيْعُ دارٍ برُبعِ فلْسِ كل هذا أهونُ مِن وقفةِ الحرِّ يرجو نوالاً ببابِ نحْسِ مع أن الأشياء التي ذكرها منها ما هو مستحيل، كأن ترجع الأمس! وأن تحمل عاراً، بأن يحمل الإنسان العار على أكتافه، ويبيع داره بربع فلس، فيبيعها بخسارة واضحة جداً، ودبغ جلدٍ بغير شمس، مع أن الجلد لا يدبغ بغير الشمس؛ لأنه يتعفن مباشرة، بل لا بد من الشمس، وإلا فلن تنتفع بالدباغ ويذهب عليك الجلد، فكل هذه الخسائر أهون من أن يقف الحر على باب لئيم، يطلب نوالاً، أي: يطلب عطاءً.