للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إخبار الغلام بمكان الراهب]

عذب الملك الغلام حتى اعترف بمكان الراهب، قال أحدهم: كيف لم يحفظ الغلام وصيةَ شيخه، وقد قال له: إن ابتليت فلا تدل عليّ.

فكيف دل عليه؟! نقول: العزائم عند البلاء تنفسخ، والرسول عليه الصلاة والسلام عندما قال: (لا تتمنوا لقاء العدو)؛ لأن العزائم تنفسخ وأنت لا تدري أتثبت أم لا؟ وكان هناك رجل زاهد اسمه سمنون وكان يقول: يا رب! ابتلني وستراني صابراً.

فابتلاه فحبس فيه البول فلم يتحمل، وجعل يدعو الله عز وجل أن يصرف عنه البول؛ فلما صرف الله عنه ذلك كان يطوف على صبيان الكتاتيب ويقول لهم: استغفروا الله لعمكم الكذاب.

الإنسان يسأل الله العافية؛ لأنه لا يدري أيصبر أم لا.

فالغلام لما عُذّبَ عذاباً أليماً ما تحمل، لذلك لا يلام، لا يقال له: كيف خالفت وصية الشيخ؟ فهذه المواضع لا يثبت فيها إلا من ثبته الله.

وأنت عندما تقرأ محنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وكيف أن الله عز وجل رفعه إلى مراقي النجوم بعد هذه الشدة؛ لأن الناس معادن، فقد تجد رجلاً يدخل الفتنة فيخرج منها أكثر لمعاناً وأشد بريقاً، وآخر يدخل الفتنة فلا يصبر، فالذهب لو أنك أخرجته من باطن الأرض وعرضته في الأسواق لا يساوي شيئاً، حتى تدخله النار فيصير ذهباً، وكل المعادن الأخرى التي تعرض للنار تحترق إلا الذهب، أما الذهب فإنه يزداد لمعاناً.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن داود عليه السلام كان أفضل بعد الابتلاء منه قبل الابتلاء.

فأنت لا تدري إذا ابتليت هل تثبت أم لا.

قال الإمام أحمد بن حنبل: جلدوني في يوم الإثنين ثلاثمائة جلدة حتى أغشي عليّ، ولم أدر ما صنع بي، وكان الأمير يقول: يا أحمد! قل: إن القرآن مخلوق.

فقال: يا أمير المؤمنين! ائتني من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم شيئاً أقول به.

فأمر الجلاد أن يضربه ضرباً مبرحاً، فجلده ثلاثمائة جلدة حتى أغشي عليه.

قال الإمام أحمد -قبل أن يقدم على الجلد- جاءني رجل لا أعرفه، فقال: يا أبا عبد الله! انظر.

قال: فنظرت خلفي، فإذا أمم معهم المحابر والأقلام سيكتبون فقال: اتقِ الله في هؤلاء، سيكتبون ما تقول، إذا زل العالِم زل بزلته عالَم) فصبر على الحق المر لأجل هدف عظيم.

عندما قال الراهب للغلام: (إن ابتليت فلا تدل عليّ) إنما قال ذلك تجنباً للبلاء.

وعندما جيء بالراهب قالوا له: ارجع عن دينك.

قال: لا.

فنشروه بالمنشار نصفين حتى سقط شقاه، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (سقط شقاه).

ربما يقول أحدهم: كيف تحمل الرجل نشر الجمجمة، ونشر هذا الجسم وهو حي؟! قال الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه النسائي وغيره: (إن الشهيد لا يشعر بوقع القتل إلا كما يشعر أحدكم بالقرص)؛ لأن الله عز وجل يدافع عن أوليائه، فإذا ابتلى أحدهم صبَّره فله الحمد في الأولى والآخرة، فهذا الصبر على الابتلاء المر فيه ذكرى وسمعة وسيرة، ها نحن حتى الآن نتكلم في سيرة الراهب، ونحن لا نعرف اسمه، ولا نعرف نسبه، ولا نعرف إلى أي قبيلةٍ ينتمي، ومع ذلك نحن نحكي حكايته لله وفي الله.