للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[استحباب الرحيل في طلب العلم]

وقوله (جاءه أعرابي) فيه دلالة على استحباب الرحلة في طلب العلم والأعرابي: هو من يسكن البادية، يعني: ليس من أهل الحضر فالرسول عليه الصلاة والسلام يعقد المجلس لأصحابه وهذا الأعرابي رحل من بلده إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليسأله عن أمر جلل، والرحلة في طلب الحديث أشهر من فعلها هم المحدثون، وأكثر من (٩٥%) من الذين رحلوا من مكان إلى مكان إنما هم أهل الحديث، وتبقى (٥%) لأهل الفقه وأهل اللغة، وسائر الذين يطلبون فنون العلم الأخرى.

فيمكن أن يكون في بلدك اثنين أو ثلاثة من الفقهاء تتخرج عليهم، وتكون فقيهاً (١٠٠%)، وتأخذ ما عندهم، لكن في الحديث قد لا تجد.

لماذا؟ لأن الأسانيد فرقت ووزعت بسبب رحلة الصحابة إلى الأمصار، وتركهم المدينة ومكة، فانتقل هؤلاء الصحابة ومعهم حديث كثير عن النبي عليه الصلاة والسلام، ففي كل بلد طلاب علم يسمعون عن شيوخ البلد، فكل واحد من هؤلاء معه من الأسانيد ما ليس مع الطرف الآخر، فلذلك وزعت الأسانيد كلها في صدور مئات بل ألوف من طلاب العلم في مختلف الدنيا، فهذه الرحلة اختص المحدثون بها لحاجتهم إليها بسبب تفرق الأسانيد في البلاد، وبذل المحدثون جهداً عظيماً كبيراً في سبيل جمع كل هذه الأحاديث من صدور طلاب العلم الذين أخذوا عن العلماء، والخطيب البغدادي له كتاب اسمه: الرحلة في طلب الحديث، ذكر فيه نماذج من رحيل الصحابة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ومن رحيل التابعين إلى الصحابة، ومن رحيل العلماء إلى المشايخ في البلاد الأخرى، فمجيء الأعرابي يدل على الحرص على طلب العلم، وأنه كلما بدا لك سؤال يستحب لك أن ترحل إلى العالم الذي يشفيك.

وقصة شعبة بن الحجاج في سبيل التثبت من حديث واحد مشهورة، ذكرها ابن حبان في كتاب المجروحين، وذكرها الخطيب البغدادي في كتاب الكفاية، وهي مشهورة، وقد نوه بها الحاكم النيسابوري في المستدرك في آخر حديث (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) بعدما روى هذا الحديث وذكر له طرقاً كثيرة، نوه برحلة شعبة بن الحجاج رحمه الله إلى طلب هذا الحديث الواحد، أراد أن يقول: إنني تعبت واستقصيت جمع طرق هذا الحديث، ولا مانع من ذلك؛ فقد فعل شعبة مثل هذا، فرحلة شعبة بن الحجاج رحمه الله استغرقت منه نحو شهرين أو ثلاثة في سبيل التثبت من حديث واحد، فعن نصر بن حماد الوراق قال: كنا بباب شعبة نتذاكر السنة؛ فقلت: حدثني إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء) قال: وبينما أنا أحدث بهذا الحديث خرج شعبة من الدار فسمعني فلطمني ودخل الدار، وكان معه عبد الله بن إدريس، قال: فجلست أبكي فدخل شعبة الدار ثم خرج فوجدني أبكي، فقال عبد الله بن إدريس: إنك لطمت الرجل، قال: إنه مجنون، إنه لا يدري ما يحدث، إني سألت أبا إسحاق السبيعي عن هذا الحديث قلت له: حدثك إبراهيم بن سعد؟ فغضب وأبى أن يخبرني، فقال لي مسعر بن كدام وكان جالساً مع أبي إسحاق: يا شعبة! إبراهيم بن سعد حي بالمدينة إن أردت أن تستثبت فارحل إلى المدينة واسمع الخبر من إبراهيم بن سعد.

وشعبة بصري من أهل البصرة، قال شعبة: فخرجت من سنتي إلى الحج ما أريد إلا الحديث فقال: فلقيت مالكاً في الحج قلت له: حج إبراهيم بن سعد؟ قال لي: لا.

ما حج العام، قال: فقضيت نسكي وتحللت وانحدرت إلى المدينة، فدخلت على إبراهيم بن سعد، فقلت له حديث الوضوء سمعته من عبد الله بن عطاء؟ قال: لا.

قلت: ممن سمعته؟ فذكر أنه سمعه ممن -أدركني سوء الحفظ- قال: حدثني زياد بن مخراق قال: فانحدرت إلى زياد بن مخراق فقلت له: حديث الوضوء سمعته من عبد الله بن عطاء؟ قال: ما هو من حاجتك، قلت له: لابد، قال: لا أحدثك حتى تذهب إلى الحمام وتغتسل وتغسل ثيابك ثم تأتيني، قال: فذهبت فاغتسلت وغسلت ثيابي وأتيته، فقلت له: حديث الوضوء، قال: حدثني شهر بن حوشب، قلت: عمن؟ قال: عن أبي ريحانة عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر، فقال شعبة: حديث مرة مكي! ومرة مدني! ومرة بصري لا أصل له، والله لو صح هذا الحديث لكان أحب إلي من أهلي ومالي.

وهذا الحديث صحيح لكن من غير الطريق الذي أنكره شعبة، والحديث إنما صح عن عقبة بن عامر عن عمر بن الخطاب، كما رواه الإمام مسلم في صحيحه، لكن الذي يقرأ هذه القصة عن شعبة بن الحجاج لا يتصور أنه بذل ثلاثة أشهر من عمره في سبيل أن يتأكد من حديث واحد فيه مثل هذه الفضيلة، وهو يقول: (والله لو صح هذا الحديث لكان أحب إلي من أهلي ومالي).

فالحمد لله رب العالمين أنه قد صح هذا الحديث.

فالعلماء كانوا يسافرون هذه الأشهر الطويلة في سبيل التثبت من لفظة واحدة، يأتي من بعدهم لا يشعر بقيمة الجهد الكبير الذي بذلوه.

ومن أمثلة الرحلة أيضاً في طلب العلم أو في طلب الحاجة: ما رواه الشيخان البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة إذ جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله! هلك الزرع والضرع، ونفقت الماشية فادع الله أن يسقينا، قال: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه إلى السماء وقال: اللهم اسقنا اللهم اسقنا اللهم اسقنا، قال أنس: وكانت السماء مثل الزجاجة -يعني: ليس فيها سحابة- قال: فما إن دعا صلى الله عليه وسلم حتى تكاثر الغمام في السماء، وما نزل من على المنبر إلا والمطر يتحدر من على لحيته، وخرجنا إلى بيوتنا نخوض في الماء، وظللنا لا نرى الشمس جمعة، قال: وفي الجمعة التي بعدها وبينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة، إذ جاءه هذا الأعرابي فوقف على الباب وقال: يا رسول الله! هلك الزرع والضرع ونفقت الماشية فادع الله أن يحبس عنا الماء، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أشهد أني عبد الله ورسوله، اللهم حوالينا لا علينا، اللهم على الآكام والضراب ومنابت الشجر، قال: فكان على المدينة شمس وحول المدينة مطر).

وكذلك ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة أيضاً أن رجلاً جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإحسان والإسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس بين أصحابه، فلم يكن تميز عنهم فكان الجائي يجيء فيسأل عنه أين محمد؟ فجاء أعرابي فسأل عنه، فقالوا له: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فذهب إليه وقال: يا بن عبد المطلب! قال: قد أجبتك، فسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان، فقالوا له: يا رسول الله! لو اتخذنا لك منبراً، قال: إن شئتم، ومن هنا اتخذوا له منبراً كان يجلس عليه ليتميز فلا يحتاج السائل أن يسأل عنه إذا جاء، بل إذا وجده يجلس على هذا المكان المرتفع عرف أن هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.