للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان مدى تأثر المرأة بخلق زوجها]

ومما يدل على ذلك ما ورد في في حديث أم زرع كما تقول أم زرع: (أبو زرع فما أبو زرع، أناس من حليّ أذنيَّ، وملأَ من شحمٍ عضديَّ، وبَجَّحَنِي فبجحت إليَّ نفسي، وجدني في أهل غنيمة بشق، فجعلني في أهل صهيل، وأطيط، ودائس، ومنق، فعنده أقول: فلا أقبح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقمح).

وكما هو واضح فهي تصف زوجها وتقول: هي امرأة بكر، وأبو زرع هذا كان قد تزوج قبلها، والرجل لا يقال عنه بكر أو ثيب، فإن هذا الوصف خاص بالنساء، فالرجل يمكن أن يتزوج مائة امرأة، والمرأة مرة واحدة وتصبح ثيباً، فيكون أول رجل قادراً على تشكيلها والتأثير فيها كما يريد.

تقول: أناس من حلي أذني.

أناس: أي: ليس عندها ذهب ولا تلبسه في أذنها، فجعل الذهب في أذنها.

وكلمة أَنَاسَ: من النوس وهو الاضطراب.

يعني: المرأة إذا هزت رأسها اهتز القرط في أذنها وهو معنى قولها: (أناس من حلي أذني).

تقول: (وملأ من شحمٍ عضديَّ) أي: كانت هزيلة فلما تزوجها أطعمها وسقاها إلى أن امتلأ عضدها بالشحم واللحم.

وقولها: (وجدني في أهل غُنَيمة بشق).

غنيمة تصغير غنم.

أي: كانت حالتهم تعيسة جداً وكانوا فقراء للغاية، وكلمة: بشق.

يعني: كانوا يعيشون بشق الأنفس، وكانت الحياة كرباً.

فنقلها نقلة عظيمة فجعلها في أهل صهيل: -كناية عن الخيل- وأطيط: -كناية عن الإبل- ودائس: -كناية عن الزرع- ومنق: -المنق: هو المنخل- وكان يستخدم المنخل آنذاك أهل الترف.

قولها: (فعنده أقول فلا أقبح) أي: إذا قلت قولاً مهما قلت لا يجرؤ أحد أن يقول: قبحكِ الله، أو قبح الله وجهكِ، لا.

لماذا؟ لأنها كريمة على زوجها، لا يوجد أحد يستطيع أن يسبها ولا يشتمها ولا يقبحها.

تقول: (وأشرب فأتقمح)، وفي الرواية الأخرى: (فأتقنح)، والفرق بينهما أن يقال: بعيرٌ قامح، إذا ورد الماء فشرب وارتوى ثم رفع رأسه زهداً في الشراب.

أما أتقنح: فهو يشرب فوق طاقته.

أي: أنها تأكل وتملأ معدتها وبعد ذلك زوجها يقول لها: خذي هذا وكليه، فلم يبق في بطنها موضع للقمة كرامة لها؛ لأنها كريمة عليه.

وقولها: (وأرقد فأتصبح)، يعني: تستيقظ في ضحوة النهار، وهذا يدل على أنها امرأة مخدومة عندها خدم؛ لأن المرأة إذا كانت عاملة نفسها فإنها تقوم من بعد صلاة الفجر ولا تنام، تخدم أولادها وتخدم زوجها، وإنما هذه تنام إلى أن ترتفع الشمس في السماء، وهذا يدل على أن عندها خدم يكفونها المؤنة.

وبعد أن وصفت زوجها أبا زرع، ومن حبها له وصفت قرابته فقالت: ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع: مضجعه كمسل شطبة، يشبعه ذراع الجفرة: المضجع هو السرير.

كمسل شطبة: مسل الشطبة جريدة نخل، وهذا يوحي أن الولد مفتول معتدل القوام، بحيث أن السرير الذي ينام عليه مثل مسل الشطبة، وهذا كلام مدحٍ عند العرب، ففي الكر والفر والقتال لا يظفر إلا ولد بمثل هذا العود.

يشبعه ذراع الجفرة، أي: ولد قنوع يشبعه ذراع الجفرة.

وتقول: (بنت أبي زرع، فما بنت أبي زرع، طوع أبيها وطوع أمها، وملء كسائها، وغيظ جارتها).

فالمرأة على عكس الرجل، هي تقول: بنت أبي زرع طوع أبيها وطوع أمها، يعني: بنت مؤدبة تسمع كلام أبيها وأمها، وملءُ كسائها، يعني: بدينة، والبدانة مستملحة في النساء، وقد كان العرب يحبون ذلك بخلاف المرأة النحيفة.

وغيظ جارتها: كان الرجل -زوجها- متزوجاً بامرأة أخرى فهي ضرتها.

أي: جارتها، فهي مغيظة لها من جمالها وبدانتها.

أم أبي زرع، فما أم أبي زرع، عقومها رداح وبيتها فساح.

العقوم: هي الجراب التي تتخذ فيه المطعومات، وهذا يدل على السعة والرفاهية.

ورداح بمعنى: طويل.

وبيتها فساح: واسع؛ لأن سعة البيت نعمة من الله عز وجل.

- جارية أبي زرع، فما جارية أبي زرع، لا تبث حديثنا تبثيثاً -أي: ليست مثل البث المباشر، أي شيء وقع في البيت نقلته على طول إلى بقية الخلق، لا- فهي كتومة، تحفظ الأسرار، ولا تبث الحديث وتشيعه.

ولا تنقث ميرتنا تنقيثاً، يعني: لا تتبذل بالمال وتحافظ على المعاش، فهي مُدَبِّرة للبيت.

ولا تجعل بيتنا تعشيشاً: أي: لا تجعل البيت كعش الطائر يكون كالمزبلة.

بل نظيف مرتب.

قالت: فخرج أبو زرع والأوطاب تمخض الدنيا ربيعاً، والماشية كلها تحلب لبناً، فلقي امرأةً معها ولدان لها كالفهدين، يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فأعجبه المنظر هذا! فطلقني ونكحها، قالوا: يا رجل! أمسك المرأة وتزوج عليها، لكن الرجل أعجبه المنظر الذي رآه فطلق المرأة ونكح المرأة الأخرى.

قالت: فطلقني ونكحها؛ فنكحت بعده رجلاً سرياً، ركب شرياً، وأخذ خطياً، وأراح علي نعماً ثرياً، وأعطاني من كل رائحة زوجاً، وقال: كلي أم زرع وميري أهلك.

ومعنى كلامها: فتزوجت بعده رجلاً سرياً، أي: من سراة الناس وأشرافهم.

ركب شريا، الشري: أجود أنواع الخيل.

وأخذ خطياً، الخط: هو الرمح الذي كان يجلب من الهند، وكان مركز توزيعه في الجزيرة بلد بالبحرين اسمها الخط، كانت الرماح الهندية تأتي إلى البحرين، ومن البحرين كانت توزع على الجزيرة، فنسب الخط إليها مسمى الرمح.

-فهذا الراكب شريف، ومن سراة الناس ويركب أجود الخيل، وراكب الخيل يشعر بالكبر وهو راكب عليه وقد ألمح الرسول عليه الصلاة والسلام إلى هذا، فقال: (الكبر والبطر في أهل الخيل، والسكينة والوقار في أهل الغنم)، فالغنم تمشي وهي مدلية رأسها باسطة في الأرض، فالراعي يأخذ من صفاتها، وكذا راكب الخيل فإنه يتقمص بعض صفات الخيل في مشيه وتبختره.

وهناك من كتب في بحوث الأغذية أن الإنسان الذي يدمن على أكل لحم حيوان ما ينتقل إليه بعض صفات ذلك الحيوان-.

تقول: وأعطاني من كل رائحة زوجاً: -وفي الرواية الأخرى-: وأعطاني من كل ذابحةٍ زوجاً، أي: من كل ما يصلح أن يذبح، من بقر أو غنم إلخ.

وقال: كلي أم زرع وميري أهلك.

تقول: فلو أني جمعت كل شيء أعطانيه هذا الرجل ما بلغ أصغر آنية أبي زرع.

يعني: كل الرفاهية والتوسع التي عند هذا، تساوي أقل إناء عند أبي زرع.

ما هو الفرق؟ الفرق: أن أبا زرع كان يخاطب قلب المرأة، ولكنها لم تجد هذا الخطاب ودفء الحنان عند الرجل الآخر، على الرغم من أنه وفر لها جميع سبل الرفاهية والعيش الهنيء.

فيتبين أن المرأة لا تحتاج إلى مال، ولكنها بحاجة إلى قلب وحنان، وهذا هو الذي فعله أبو زرع، ثم إن أبا زرع كان هو أول رجل في حياة أم زرع، لذلك خط في وجدناها خطاً عميقاً جداً، فهو أول رجل في حياتها، وكان رجلاً صدوقاً حنوناً فأثر فيها.

فالمرأة لا تنسى أول رجل في حياتها وهي تحتاج إلى قلب الرجل، وتحتاج إلى دفء الحنان، ولا تحتاج إلى الترف أبداً، فإذا شعرت المرأة معك بالأمان والسلام النفسي، استغنت عن كل شيء في الدنيا.

واعلم أن رأس مال الرجل مع زوجته أن يكون رجلاً صريحاً، قدوة، لا يكذب عليها، وإلا فالمرأة تعامل الرجل على ما عرفته من سجاياه أول مرة، وهناك مثل يقول: (اذبح بستك -قطتك- ليلة دخلتك)، البس: كناية عن القط، وفي هذا المثل قصة لطيفة وظريفة: يقال: أن رجلين تزوجا في يوم واحد، أما أحدهما فكانت حياته مستقرة تمام الاستقرار، بينما الآخر في حياة مضطربة صاخبة، مليئة بالمشاكل الأسرية والضرب والصياح، وفي يوم قال الرجل -صاحب المشاكل- لصاحبه: أنا لا أسمع صوتك ولا صوت امرأتك، وأنا كل يوم في نكد، فقال: إن حياتي هانئة جداً، وممتازة، فقال له: ما الذي صنعته؟ فقال: في أول ليلة الزواج كنا نأكل لحمة مع بعض وهناك قطة قربت مني فأمسكتها وذبحتها بالسكين -فهابته المرأة فاعتدلت- فقال: هذه نصيحتك؟ قال: نعم.

فذهب إلى السوق واشترى قطة ووضعها في البيت، وأتى بلحمة وجعل يأكل هو وزوجته، وجاءت القطة، فقام وأمسك القطة وذبحها، فقالت له زوجته: هذه فاتت عليك، (اذبح قطتك ليلة دخلتك)، أي: هذا الفعل جاء متأخراً، فلو أنك فعلت هذه الفعلة ليلة الدخلة كنت أتيت بنتيجة.

خلاصة الكلام: أن المرأة أول ما رأت خلق الرجل وعرفت أخلاقه عاملته على قدرها.

إذاً: الرجل هو قطب الدائرة، والمرأة تدور حوله، يبقى الرجل هو الأصل، وأنا من واقع تجربتي، وملامستي للمشاكل التي أتوسط فيها كل يوم على مدار أكثر من خمسة وعشرين عاماً، ما وجدت امرأة ناشزاً قط إلا وجدت الرجل سبباً في نشوزها، فلو قام عليها بحق القوامة ما نشزت عليه، لكن تفريط الرجل في قوامته هو الذي أغرى المرأة في النشوز، وهاهو إبراهيم الخليل عليه السلام يبين لنا كيف أن المرأة لا تعصي زوجها إن قام عليها بحق القوامة، فانظر إليه عليه السلام وقد جاء بزوجته إلى بلد ليس فيها إنسي وتركها بوادٍ غير ذي زرع وجن الليل عليها هي وابنها الرضيع وإذا بها تلحق به وتقول له: يا إبراهيم! يا إبراهيم! وهو لا يرد عليها، وهي ما تزال تجري وراءه حتى وصلت إلى أعالي مكة، ثم بعد ذلك تقول: يا إبراهيم! لمن تتركنا، بواد غير ذي زرع ولا إنسي، فلا يجيبها، فتقول: آلله أمرك بهذا؟ فأشار برأسه أن نعم.

فما زادت المرأة المُسَلِّمَة لله عز وجل على أن قالت: إذاً: لا يضيعنا.

فرجعت تواجه أقدارها؛ إنما رجعت لأن معها الصدق الذي تعودته من إبراهيم عليه السلام، فهو ما كذبها أبداً عليه السلام.