[الأمر بالشيء نهي عن ضده]
يقول الأصوليون: (الأمر بالشيء نهي عن ضده)، فإذا قلت لك مثلاً: أكرم ضيفك، فأنا نهيتك عن ضده، يعني: لا تهن ضيفك، فالأمر بالشيء نهي -لازم- عن ضده لأن الكلام له ظاهر وباطن، فظاهر الكلام اسمه: المنطوق، وباطن الكلام اسمه: المفهوم.
ونحن نقصد مفهوم المخالفة، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:٦] فإن منطوق الكلام -أي: المعنى الذي من أجله وضع الكلام- إذا جاءك الفاسق بنبأ فلا تصدقه حتى تتأكد منه، وباطن الكلام: إذا جاءك العدل الصادق بنبأ فلا تتبين هذا المنطوق والمفهوم من الآية.
كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين)، فغير المحرمة تنتقب وتلبس القفازين؛ لأن الحكم إنما علق بالقيد الظاهر وهو الإحرام.
فهذا ما يطلق عليه العلماء: مفهوم المخالفة، الذي هو معنى الكلام لا في محل النطق.
لكن العمل بمفهوم المخالفة يشترط له: أن لا يكون الكلام خرج مخرج الغالب، فإذا خرج الكلام مخرج الغالب كان المفهوم ملغى، وبسبب الغفلة عن هذا المعنى، ألف أحدهم كتاباً سماه: تذكير الأصحاب بتحريم النقاب.
فلما رد عليه الناس وسفهوه وقالوا: إنه جاهل، وعندما نشر الكتاب مرة أخرى توجع وقال: إنهم ما قرءوا الكتاب، ولو قرءوه لوجدوا أنني على حق.
فهذا عجيب! لأن العنوان يدل على الحكم، فلو كان العنوان موهماً أو غير واضح، فله أن ينكر على الذين أنكروا عليه لكن الكتاب الذي ألفه لا يحتاج إلى قراءة؛ لأنه وضع الحكم في العنوان: تذكير الأصحاب بتحريم النقاب، فلو ألف أحد كتاباً -مثلاً- وسماه: غاية المنى بتحريم الزواج واستحباب الزنا، فهل نحتاج إلى قراءة الكتاب حتى نحكم على مؤلفه.
وتوجد عناوين موهمة قد تعطيك عكس ما في الكتاب، وبعض الناس يعتبر هذا فناً، لكن هذا خطأ، فمثلاً: الشيخ أبو بكر الجزائري له كتاب اسمه: إلى التصوف يا عباد الله، فأي أحد يقرأ العنوان يقول: هذا يدعو إلى التصوف، لكن الكتاب هجوم على التصوف، فلماذا وضع هذا العنوان؟ قال: لأنني أريد أن يقرأ الكتاب المتصوفة أنفسهم، فالمتصوف عندما يرى عنوان الكتاب: (إلى التصوف يا عباد الله) يقول: هو هذا الذي أريده، فيأخذ الكتاب ويقرأه، فإذا به يفاجأ أن الكتاب يرد عليهم، فلربما تعجبه كلمة أو كلمتان فيرجع عن مذهبه المنحرف، فالكلام هذا فيه نظر؛ لأن العناوين أنساب الكتب، ولابد أن يكون العنوان مطابقاً لما في الكتاب.
والسيوطي له رسالة اسمها: إسبال الكساء على النساء، فعند قراءتك لعنوان الكتاب تظن أنه يتكلم عن الحجاب واللباس والنقاب، مع أنه يتكلم عن المرأة هل ترى ربها في الآخرة أم لا؟ فما علاقة إسبال الكساء على النساء؟ قال: لأن الذين يقولون إن المرأة لا ترى الله عز وجل يكون عليها إسبال فلا ترى الله.
تشتري الكتاب على أساس أنه كتاب في اللباس والزينة، وإذا بك تفاجأ أن الموضوع مختلف تماماً.
قال صاحب كتاب: تذكير الأصحاب بتحريم النقاب، بعد أن انتقده الناس على هذا العنوان قال: إن مفهوم المخالفة لا يعمل به؛ لأننا لو عملنا بمفهوم المخالفة فسنقع في عدد كثير من الإشكالات.
قال: الإشكال الأول: في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:١٣٠]، فلو أخذنا بمفهوم المخالفة، فإنه يجوز أن نأكل ضعفاً واحداً.
الإشكال الثاني وهو: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:١٩٧]، فمفهوم المخالفة: أنه يجوز الرفث والجدال والفسوق في غير الحج وبدأ يأخذ آيات وأحاديث على مثل هذه الوثيقة، كل هذا لأجل أن يرد على العلماء الذين احتجوا على النقاب بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس قفازين) إذاً: ما هو الرد؟ نقول: إن الكلام إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، فالعرب عندما كانوا يضعفون الربا نزل الكلام تنبيهاً على غالب ما يفعلون، وإلا فربنا سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة:٢٧٨]، (ما) من صيغ العموم تفيد القليل والكثير، لكن نزل هذا الكلام تنبيهاً على ما كان العرب يفعلونه.
فمثلاً: الربيبة هل يجوز للرجل إذا دخل بأمها أن يتزوجها؟ مثلاً: امرأة زوجها مات وعندها بنت صغيرة، فأنت تقدمت وتزوجت هذه المرأة، فابنتها تكون ربيبة بالنسبة لك، يقول سبحانه وتعالى في آية المحرمات: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء:٢٣]، فإذا خطبت الأم ولم تدخل بها فإنه يجوز لك أن تطلقها وتتزوج ابنتها، لكن لو عقدت على البنت تحرم عليك الأم إلى يوم القيامة، والبنت لا تحرم عليك إلا إذا دخلت بالأم.
قوله تعالى {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:٢٣]، في حجوركم: الحجر يعني أنت الذي تربيها، فأنت عندما تزوجت الأم أتت بابنتها معها، فصارت البنت في حجرك.
فإذا افترضنا أن هذه المرأة التي لها بنت قرر زوجها الأول أن يأخذ البنت ويربيها فإنها بهذا لن تكون في حجرك فالسؤال هو: هل يجوز أن تتزوجها؟ لأن الآية تقول: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:٢٣] فيكون هذا القيد خرج مخرج الغالب، فمفهومه هدر.
قولنا: (خرج مخرج الغالب) فإنه لما كانت العادة أن الأم تكون حاضنة لمثل هذه البنت، فتأخذها إلى بيت زوجها الجديد، بخلاف العكس، فكان هذا هو غالب فعل الناس، فنزل هذا القيد على الغالب من فعلهم، فهذا لا مفهوم له، لأن الكلام خرج مخرج الغالب.
قال الله تبارك وتعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:٣٣]، لا يأتي أحد ويقول: افرض أنهن لم يردن تحصناً فهل يجوز أن نكرههن على البغاء؟ نقول: لا؛ لأنه كان من غالب أمرهم أنهم كانوا يكرهون الفتيات على البغاء، فنزل الكلام منزل الغالب.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه) غير رمضان، قوله: (وزوجها شاهد) فلو سافر زوجها وقال لها: لا يحل لك أن تصومي أي صيام تطوع وأنا غائب، فهل تطيعه أم لا؟ نعم، تطيعه، لكن مفهوم المخالفة أنه يجوز لها أن تصوم وهو غائب؛ لأن كلمة (شاهد) خرجت مخرج الغالب؛ لأن الرجل إنما يحتاج إلى امرأته وهو شاهد، فلعل المرأة تستأنف الصوم -صيام التطوع- وهو يريدها فتكدر عليه، فالرسول عليه الصلاة والسلام راعى المسألة هذه، لأن شهود الرجل فيه حاجة له، لكن غيابه ما فيه أية حاجة له من أمرأته، فيكون هذا القيد خرج مخرج الغالب، وإلا فلو نهاها وهو غائب لا يحل لها أن تصوم.
والعلماء لا يختلفون أن دلالة المنطوق أقوى من دلالة المفهوم؛ لأن المنطوق هو الذي وضع لأجله الكلام ابتداءً، فلو تعارض منطوق ومفهوم، فإنه يقدم المنطوق؛ لأنه أقوى في الدلالة، فقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة:١٨٥] هذا منطوق فلو أنه لم يكمل الآية فإننا سنفهم أنه لا يريد بنا العسر بدلالة المفهوم، لكنه أتى بنفي العسر أيضاً بدلالة المنطوق، ليكون أقوى، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:١٨٥] تأكيد، فهذا كله يدل على أن الله تبارك وتعالى لما شرع لنا هذا الدين أراد بنا اليسر.