للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[النزول إلى السجود في الصلاة يكون باليدين]

السؤال

أشكلت علينا أمور في الصلاة فأجبنا يرحمكم الله.

الأمر الأول: ما هيئة النزول إلى الأرض للسجود؟

الجواب

بالنسبة لمسألة النزول إلى الأرض أهي باليدين أم على الركبتين؟ الصحيح في هذا الباب بما لا يدع مجالاً للشك: أن النزول إنما يكون على اليد وليس على الركبة؛ يدل على ذلك الأثر والعقل: أما بالنسبة للأثر: فحديث أبي هريرة رضي الله عنه -وهو صحيح لا علة فيه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه) هذا لفظ قاطع في المسألة وفي غاية الوضوح، وأعظم ما أعل به هذا الحديث بقول الإمام البخاري رحمه الله في محمد بن عبد الله بن الحسن - أحد رواة الحديث؛ لأن هذا الحديث رواه الترمذي وغيره من طريق محمد بن عبد الله بن الحسن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه- فقال الإمام البخاري: (ومحمد بن عبد الله بن الحسن ما أدري أسمع من أبي الزناد أم لا) هذا ما أعل به.

فالإمام البخاري رحمه الله نفى معرفته ولم ينف معرفة غيره، وهناك فرق بين أن يقول: لم يسمع، وبين أن يقول: لا أدري أسمع أم لا.

ولو جئنا فنظرنا في ترجمة محمد بن عبد الله بن الحسن الملقب بـ النفس الزكية، لوجدنا أنه مدني كان يعيش في المدينة، وأبو الزناد عبد الله بن ذكوان عالم المدينة الأشهر في زمانه، وكان له حلقة مشهورة جداً في المسجد النبوي، فعاصر محمد بن عبد الله بن الحسن أبا الزناد خمسة وأربعين سنة في المدينة أفما التقيا ولو مرة، وهذا مدني وهذا مدني؟! محمد بن عبد الله بن الحسن يعاصره خمسة وأربعين سنة ولا يحضر مجالس أبي الزناد! فالمعاصرة محققة يقيناً.

ثم إنه لم يتهمه أحد قط بالتدليس، فإذا أمنا من تدليسه فعنعنته محمولة على الاتصال، ثم المعاصرة يقيناً موجودة -كما قلت- فيقيناً لا هناك سبيل إلى القول: لا أدري أسمع أم لا.

وهو على شرط مسلم صحيح، وفهذا غاية ما علل به.

أما حديث شريك بن عبد الله النخعي فقد جاء -وهو من حديث وائل بن حجر وأبي هريرة وغيرهم- من طريق يزيد بن هارون عن شريك بن عبد الله النخعي، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا هوى إلى السجود انحط، فكان أول ما وصل إلى الأرض منه ركبتاه) قال الدارقطني رحمه الله بعد ما روى هذا الحديث: (تفرد به شريك، وليس بالقوي فيما يتفرد به) وهذا كلام من الدارقطني له وزنه: أنه لم يتابع أحد شريك بن عبد الله النخعي وهو سيء الحفظ، فمعلوم أن سيء الحفظ إذا تفرد لا يقبل منه فكيف إذا خالف؟ فهو أولى وأحرى أن يرد إليه.

وقال بعض الناس: إن رواية شريك بن عبد الله النخعي نعم ترد، لكن إذا روى عنه يزيد بن هارون فروايته صحيحة؛ لأن شريكاً ما ساء حفظه إلا بعد ما ولي القضاء في الكوفة، ويزيد بن هارون سمع منه قبل ذلك، وقد نص أهل العلم كـ ابن حبان وغيره أن رواية يزيد بن هارون عن شريك النخعي سالمة من الخلل.

ولكن يجاب عن هذا بما رواه الخطيب البغدادي عن يزيد بن هارون في الكفاية قال: (دخلت الكوفة فما رأيت بها أحداً إلا يدلس غير شريك وهشيم بن بشير) فدل على أن يزيد بن هارون دخل الكوفة وأخذ عن شريك بن عبد الله في الكوفة أيضاً.

إذاً: فله روايتان: رواية قبل الاختلاط ورواية بعده، فمذهب أهل العلم فيمن حاله هكذا أن يتوقف عن قبول خبره جملة حتى يميز أكانت روايته عنه قبل الاختلاط أم بعده.

أضف إلى ذلك أنه صح عن ابن عمر -وقد علقه البخاري بصيغة الجزم في صحيحه-: (أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه).

وقد روى الحاكم في مستدركه هذا عن ابن عمر ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال الحاكم: (وقد قال به جماعة من الصحابة والتابعين، والقلب إليه أميل).

فهذه هي الآثار، وكل حديث فيه الابتداء بالركبتين فهو إما منكر وإما ضعيف جداً، وأحسنها حديث شريك، وقد قلنا: إنه ضعيف ومعارض لحديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وأما من جهة العقل: فالبعير أول شيء يصل إلى الأرض منه ركبتاه؛ إذ أن يداه موضوعتان يمشي عليهما، وذكر أهل المعاجم -معاجم اللغة- أن المقدمان من ذوات الأربع يدان، والمؤخران الرجلان.

فلما علم بعض الذين يتولون القول بتقديم الركبة ذلك قالوا: إن ركبة البعير ليست في يده! وهذا كلام لا يعرفه أهل اللغة، وقد ذكر أهل المعاجم جميعاً في مادة (ركب) قالوا: (وركبة كل ذي أربعٍ في يديه، وعرقوباه في رجليه)، واستدلوا على ذلك بثلاثة أحاديث: الحديث الأول: وهو صريح جداً في الدلالة على المطلوب -وهو في البخاري وأحمد- عندما طارد سراقة بن مالك النبي عليه الصلاة والسلام، قال سراقة بن مالك: (فدعا عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم فساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين) فدل على أن الركبة في اليد.

الحديث الثاني: حديث أنس في الصحيحين عندما صلى النبي عليه الصلاة والسلام الظهر ثم قال: (سلوني سلوني! حتى قال عبد الله بن حذافة: من أبي؟ قال: أبوك حذافة.

ورجل قال: أين أبي؟ قال: أبي وأبوك في النار، فضج الناس حتى أكثروا، قال: فجثا عمر على ركبتيه) وفي الرواية الأخرى: (فبرك عمر على ركبتيه) وبوب عليه الإمام البخاري بقوله: (باب البروك على الركب)، فدل هذا على أن البروك لا يكون إلا على الركبة.

الحديث الثالث: رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: لما نزلت خواتيم البقرة: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:٢٨٤] قال: (جاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فبركوا على الركب، وقالوا: يا رسول الله! جاءت التي لا نستطيع) إلى آخر الحديث، فدل على أن البروك إنما يكون على الركبة، والركبة في كلام أهل اللغة لذوات الآربع إنما هي في اليد.

إذاً: ما هو أول شيء يصل من البعير إلى الأرض؟ أول شيء ركبتاه وهما في يديه، فإذا كان أول شيء يصل إلى الأرض من البعير ركبتاه فلا يكون أول شيء يصل من المصلي إلى الأرض ركبتاه، وهذا بدهي جداً، والمسألة طويلة، وأرجو أن يكون النزاع قد فصل.