[إضاءات في طريق الصحوة الإسلامية]
هذه الصحوة الإسلامية المباركة لابد لها أن ترجع، فتكون صحوة أثرية، ومعنى (صحوة أثرية): أن تكون صحوة بالنص، قبل أن تعمل شيئاً اسأل: ما حكم الله في هذه المسألة؟ لا تجعل حكم الله هملاً وقوله رأياً لا قيمة له، ولا يكون آخر ما تنظر إليه في المسألة هو قول الله عز وجل لماذا؟ كل خطوة تخطوها يجب أن تسأل نفسك قبل أن تخطوها: أهذا حلال أم حرام؟ يجب أن نتنبه له جيداً، لأن بعض الناس قد يقع في مثل هذا، فإذا قلت له: إن هذا حرام.
يقول لك: لم أكن أعلم بذلك فما الذي جعلك لا تدري؟! وما الذي جعلك تقدم قبل أن تعرف قول الله تبارك وتعالى في المسألة؟ إذاً: هذه الصحوة تحتاج إلى هذا الضابط: وهو أن تتعلم حكم الله تبارك وتعالى في المسألة، وهل أذن الله عز وجل لك بهذا الفعل أم لا؟ جاء في ترجمة بهلول بن راشد، وهو أحد تلاميذ الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه أدمى إصبعه، فلفها بقماش حتى لا تنزف.
ولماذا ذهب إلى الصلاة، نزع القماش من على هذا الأصبع ثم صلى، وظل قابضاً على هذه الإصبع لماذا؟ خشي أن يقتدي به الناس؛ لأنه في محل قدوة، وإنما فعله لشبهة عارضة، فأخبأ إصبعه حتى لا يقتدى به في المسألة، ولم تطب نفسه حتى أرسل إلى أحد أقرانه يسأله عن فقه هذه المسألة.
فروى بسنده عن عبد الله بن عمر أنه كان يصنع ذلك، قال: الحمد لله الذي جعلني على سنة.
الشاهد: أنه لما أتته أشكلت عليه هذه المسألة نظر فيها: هل هناك فيها نص يرجع إليه أم لا؟ يقول أبو زرعة الرازي رحمه الله: إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل -أي: حبذا لو كان عندك نص يبيح لك ألا تحك رأسك إلا بأثر الرأي مرج والحديث درج، فإن كنت في المرج فسر حيث شئت، وإن كنت في الدرج؛ فاحذر أن تزل قدمك فتندق عنقك).
يريد أن يقول بهذه الكلمة الحكيمة: الرأي مرج: المرج هو البحار الواسعة أو المكان الفسيح، طالما في المسألة رأيي ورأيك، فالمسألة واسعة جداً، سر يميناً أو شمالاً، لأن الآراء لا تحد، ولا ترجع إلى نص.
والحديث درج: الدرج هو السلم، أي: التزم بالنصوص الشرعية.
إن كنت على الدرج فاحذر أن تزل قدمك فتندق عنقك، أي: إن كنت تمشي على مقتضى النصوص الشرعية؛ فاحذر أن تفهم خطأً، فتحرم الحلال أو تحل الحرام هذا معنى (فتندق عنقك).
فهؤلاء كان التزامهم بمثل هذه النصوص الشرعية التزاماً مطلقاً عالٍ جداً، وهو الذي جعلهم في هذه السعادة الغامرة، والصلة العامرة بالله تبارك وتعالى.
هذا الالتزام المطلق هو الذي يعطيك الفهم الواعي المطلوب، وهذا ما تنشده الصحوة الإسلامية الآن وهو: تقوية وازع الضمير، وتقوية جانب الورع في نفوس المسلمين.
روى الإمام أحمد في كتاب الزهد قال: (حدثني سفيان بن عيينة قال: قال رجل لـ مالك بن مغول: اتقِ الله.
فوضع خده على الأرض).
هذا معنى: اتقِ الله.
نحن الآن نقول: اللهم اجعلنا من المتقين.
ثم نستمر في المخالفات الشرعية، وهذا يدلك على أنها مجرد كلمة ما مست شغاف القلب.
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه اعتبر خامس الخلفاء الراشدين كما قال الإمام الشافعي، جيء إليه بقوارير العطر من الأمصار، وكان من بينها المسك، وأنت تعلم أن المسك له رائحة فواحة جداً، ولذلك كان يضرب به المثل في الأحاديث، فيقال: (أطيب من ريح المسك) والمسك الحقيقي مسك بعيد جداً عن هذا المسك، فالمسك الطبيعي فواح جداً، فلو أغلقت زجاجة المسك فإنك تشم رائحته.
جيء بقوارير المسك ووضعت أمام الناس، فدخل عمر بن عبد العزيز يستقل هذه البضاعة، فأول ما دخل سد أنفه.
قيل: يا أمير المؤمنين! هذا ريح! فقال: وهل يستفاد منه إلا لريحه؟! فانظر إلى مثل هذه المواقف، ثم انظر إلى الذين يتلبسون -لا أريد أن أقول: في المحرمات- على الأقل بالشبهات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الشيخان: (الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه ولعرضه، ومن حام حول الحمى كاد أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه).
انظر إلى هذا الحديث الجامع المانع، قسم لك الأشياء الموجودة في الأرض إلى ثلاثة أقسام: - حلال محض.
- حرام محض.
- ثم بينهما مرتبة تتردد ما بين الحل والحرمة.
فأما الحلال المحض فالكل يعرفه.
والحرام المحض أيضاً الكل يعرفه، وإن أظهروا الجهل وأنهم لا يعلمون.
قال بعض العلماء: وكيف لا يعلم الإنسان الحلال المحض من الحرام المحض، والحيوان يعلم به؟ قيل له: وكيف ذلك؟ قال: انظر إلى الهر -مثلاً- إذا أخذ قطعة اللحم منك فإنه يجري هارباً، لا يستطيع أن يأكلها بجانبك، أما إذا أعطيتها له يأكلها بجانبك.
الهر يميز ما بين الحلال وما بين الحرام، وابن آدم لا يستطيع أن يميز!! بعض علماء الأصول يقول: إن الشبهة من باب المباح؛ لأنها ليست بمحللة ولا محرمة، إنما هي داخلة في باب المباح، ومعروف أن باب المباح أقرب إلى الاستحباب والحل منه إلى الكراهة والتحريم.
والإكثار من المباحات بابه واسع، فقد تجد الإنسان يأكل كثيراً فيأكل أي شيء وبأي ثمن، لكن تعوده على هذا المباح وإكثارك منه يدخله في باب الكراهة والتحريم، وهو وسيلة لمخالفة نص شرعي آخر؛ وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه)، فهذا من باب الاستحباب.
ثم قد يورث هذا عنده البطر، حيث أنه لا يرضى إلا بهذا المستوى من العيش، ونحن قد وجدنا كثيراً من الناس أكثروا على أنفسهم في المباحات، وعندما ضاقت عليهم أحوالهم أبوا أن ينزلوا عن المستوى الاجتماعي الذي كانوا يعيشون فيه، مما اضطرهم بعد ذلك إلى ارتكاب الحرام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن اتقى الشبهات؛ فقد استبرأ لدينه ولعرضه، ومن حام حول الحمى -أي: ظل يقتحم الشبهات بدعوى أنها مباحة- كاد أن يقع فيه).
ما هو الحمى؟ محارم الله.
إذاً: فإكثارك من المباح باب إلى المكروه الذي هو باب إلى الحرام في النهاية.
وانظر إلى أي إنسان تمسك بالمباح وأسرف فيه، فإنه لا بد أن يقع في الحرام.
فالذين يقولون: إن الشبهة من باب المباح أخذوا هذا من قوله عليه الصلاة والسلام: (فمن اتقى الشبهات) قالوا: لو كانت من باب الحرام لما خير المكلف فيها، فقالوا: هي من باب المباح.
ولو سلمنا جدلاً أنها من باب المباح، علمنا أن الإسراف في المباح مدعاة للوقوع في المكروه، وإذا اقتحم الإنسان أبواب المكروه قل إحساسه بالحرام.
انظر إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أخرجه الشيخان: أن رجلاً باع لرجل أرضاً، فبينما هو يحرث فيها يوماً، ويضرب فيها بفأسه، إذ ارتطمت سن الفأس بحجر، فلا زال يبحث حتى وقع على ذهب كثير، فأخذ الذهب وذهب إلى صاحب الأرض.
قال له: خذ ذهبك، فإنما اشتريت منك الأرض دون الذهب.
فقال له الرجل: إنما بعتك الأرض بما فيها، فلا آخذ الذهب.
خذ ذهبك.
فاختلفا، فمر بهما رجل فقالا: نحتكم إلى هذا الرجل.
فقال الرجل: ألكما ولد؟ قال: نعم.
لي غلام.
وقال الآخر: لي جارية.
قال: فأنكحا الغلام الجارية، وأنفقا عليهما الذهب.
فهذا الرجل من ورعه لا يرى أنه اشترى الذهب.
وحدث في زمن التابعين: أن رجلاً باع لرجل داراً، وهذه الدار كانت على الطريق، وفي إحدى الأيام مر صاحب الدار القديم من أمام داره، وكاد حر الشمس أن يهلكه، فمر على داره السابقة، فصعد بجانبها الذي في الشمس، فخرج إليه صاحب الدار الجديد فقال له: يرحمك الله لم تقعد هنا؟! قال: إنما بعتك الدار، وظلها ليس ملكاً لي.
كما قلنا: باب الورع واسع جداً، لا يحده حد، بل لو أراد هذا أن يتورع أكثر من هذا لاستطاع، كل هذا بشرط ألا يخالف حكماًَ شرعياً، فلو خالف الورع حكماًَ شرعياً كان المتورع آثماً، بل يكون الورع فيما لم يرد فيه نص خاص بمخالفته.
كأن يكون هناك رجل يمشي في صحراء، ثم أدركه الجوع والعطش، فرأى خنزيراً -مثلاً- فيقول: أعوذ بالله، لقد حرم الله الخنزير، فأنا لا آكله، أنا أفضل أن أموت على أن آكل الخنزير.
هذا لو مات -كما قال سفيان الثوري - لدخل النار؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة:٣] أي: في مجاعة {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} [المائدة:٣] أي: غير ملابس إثماً شرعياً، فلا إثم عليه، وهذا كله بعد قول الله تبارك وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} [المائدة:٣] إلى آخر الآيات.
إذاً: هذا الرجل في محل ضرورة شرعية، فلا بد أن يأكل، وإن تعفف عن رخصة الله تبارك وتعالى له فإنه معرض عن حكم الله -عز وجل- في المسألة، فهذا إن مات فقد قتل نفسه والعياذ بالله.
إذاً: باب الورع واسع جداً؛ لكن هذا كله مشروط بأن لا يخالف ورع هذا الإنسان حكماً شرعياً.
نحن نحتاج إلى هذا الباب، وهذا الباب -بطبيعة الحال- لن يأتي إلا إن استوفيت الواجبات، ثم حرصت على المستحبات فاستوفيتها، ثم دخلت في باب المباحات؛ فإنك إن فعلت ذلك فقد اقتربت جداً جداً من باب الورع.
وهذا جواب سؤال على الذين يقولون: إننا نحاول كثيراً أن نجبر أنفسنا على بعض ما كان الصحابة يفعلونه من مثل هذه النماذج التي سردتها عن بعض الصحابة والتابعين، فنفشل فشلاً ذريعاً، فما الذي يجعلنا نخفق هذا الإخفاق الذريع؟ يقال: يا أخي! انظر! هل استوفيت الواجبات؟ وبعد أن تستوفي الواجبات؛ انظر! هل دخلت في المستحبات بجهد وافر؟ ولا أريد أن أقول لك: هل استوفيت المستحبات؛ فإن استطعت بعد ذلك أن تستوفي المستحبات فإنك لن تسألني هذا السؤال، أو أنا لن أسأل غيري هذا السؤال، لماذا؟ لأنك اقتربت قاب قوسين أو أدنى من باب الورع الواس