للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصة أبي سفيان مع هرقل]

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

فدرسنا في هذا المساء حديث من صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى، واخترت هذا الحديث؛ لأن الإمام البخاري في تبويبه لمعاني الأحاديث عادةً ما يسلك كثيراً سبيل الإشارة؛ حتى يمرن ذهن القارئ ويعلمه استنباط الأحكام أو المعاني من الأحاديث.

هذا الحديث حديث جليل، وهو آخر حديث في أول كتاب في صحيح البخاري، وقد قسم البخاري رحمه الله صحيحه إلى كتب؛ كتاب بدء الوحي، كتاب الإيمان، كتاب العلم، كتاب الطهارة، كتاب الصلاة، كتاب الزكاة إلى آخره.

فأول كتاب بدأ به الإمام البخاري رحمه الله صحيحه: كتاب بدء الوحي، فذكر في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، أول حديث هو حديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) الحديث وآخر حديث هو الذي سنشرحه في هذا المساء.

قلت: إن هذا الحديث طويل، ويشتمل على كثير من المعاني، ولكننا لا نستطيع أن نأتي على كل المعاني التي يزخر بها هذا الحديث، لكن سنقف على أهم هذه المعاني وأوضحها.

قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، قال: أخبرنا شعيب وهو: ابن أبي حمزة، ومن الرواة عن الزهري، وأكثر من الرواية عنه، وهو إمام ثقة- عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن عبد الله بن عباس أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره: (أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً في الشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مادّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء -مدينة- فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا ترجمانه، فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: قلت: أنا أقربهم نسباً، فقال: ادنوه مني، وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره.

ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه، قال -يعني أبو سفيان -: فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت عنه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب.

قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا.

قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا.

قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم.

قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون.

قال: فهل يرتد أحد منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا.

قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا.

قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، -قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة- قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم.

قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه.

قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.

فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.

وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يتأسى بقول قيل قبله.

وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه من ملك، قلت: رجل يطلب ملك أبيه.

وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقلت: أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.

وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل.

وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم.

وسألتك: أيرتد أحد سخطة على دينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.

وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر.

وسألتك: بم يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين.

وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه.

ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى.

أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تسلم؛ يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين: ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) [آل عمران:٦٤].

قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر الصخب، وارتفعت الأصوات، وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمِر أمْر ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملك بني الأصفر.

فما زلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام.

وكان ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل أسقفاً على نصارى الشام، يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوماً خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك.

قال ابن الناطور: وكان هرقل حزاءً ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا: ليس يختتن إلا اليهود، فلا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود.

فبينما هم على أمرهم أُتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب فقال: هم يختتنون، فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر.

ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص، فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت.

ثم اطلع فقال: يا معشر الروم! هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان، قال: ردوهم علي، وقال: إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل).