للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفريغ القلب للمحبوب]

اعلم -أيها المسترشد- أن أهم علامات الحب: ألا يزاحم محبوبك أحد في قلبك؛ لأن القلب لا يعمل إلا في اتجاه واحد، فإذا شغلته بغير محبوبك لم تكن محباً، وإذا قسمته بين محبوبك وغيره نقصت المحبة وكانت الدعوى أعرض مما بين المشرقين؛ لأن القلب لا يعمل إلا في اتجاه واحد كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:١ - ٤] فأبان بهذه الآيات أن القلب لا يعمل إلا في جهة واحدة، وأنه كلما أخلصت هذه الجهة لمحبوبك كانت المحبة أتم ونلت الرضا، فأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بتقواه، والتقوى هي جماع كل خير، ولا تتم التقوى إلا باتباع الوحي أمراً ونهياً، ثم لا يتم كل ذلك إلا باعتماد القلب على الله وهو حقيقة التوكل {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:٣]؛ لأن القلب لا يعمل إلا في جهة واحدة.

فإن قلت: كيف يتم ذلك وقد (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الناس إليه من النساء؟ فقال: عائشة، فقيل: من الرجال؟ قال: أبوها) فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب، ولابد أن يكون للمحبة شيء في القلب.

نقول: لا تنافي؛ لأن محبة النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة وأبي بكر فرع عن محبة الله عز وجل لهما، فإذا أحب غير الله عز وجل إنما أحبه لحب الله إياه، فهو في النهاية لا ينفعل إلا لحب الله عز وجل، فإذا كان القلب لا يعمل إلا في جهة واحدة فحافظ عليه، ولابد أن تغار أن يملأ هذا القلب غير محبوبك.

إن النبي صلى الله عليه وسلم قال للناس ليبين لهم فداحة الشرك وعظم الجرم الذي يقترفونه في حق أنفسهم قال: (أيها الناس! أيكم يرضى أن يكون له عبد يعمل فيؤدي إلى غير سيده؟) أيكم يرضى هذه الصورة: أن يكون لك عبد يعمل بالأجرة، فإذا كان آخر النهار أخذ الأجرة وأعطاها لغيرك، أهذا عدل بار؟! هل أحد منكم يطيق هذا العبد؟! فإذا كنا جميعاً نجيب: لا أحد يطيق هذا العبد، فكيف صرف الناس العبادة إلى غير الله عز وجل؟!! يأكلون من خيره ومن نعمائه، وكل شيء في حياتهم هو المتفضل عليهم به، ومع ذلك يصرفون العبادة إلى غير الله عز وجل، فكيف لم ترضوا لأنفسكم ما رضيتموه لله عز وجل؟!! هذا من علامات الشقاواة والتعاسة كما قال حبيب بن أوس الطائي الشاعر المشهور بـ أبي تمام يقول: ومن الشقاوة أن تحب ومن تحب يحب غيرك أو أن تسير لوصل من لا يشتهي في الوصل سيرك أو أن تريد الخير بالـ إنسان وهو يريد ضيرك سيَّان إن أوليته خيراً وإن أمسكت خيرك فهذا من علامات الشقاء: أن الذي صرفت له مهجة قلبك منصرف عنك، يحب غيرك، ويعطيه الولاء.

هذا من أعظم علامات الشقاء، فلذلك كان أعظم سمات المحبة أن تفرغ قلبك لمحبوبك، وليس هناك أحد قط -لا ملك مقرب ولا نبي مرسل- يستحق المحبة لذاته إلا الله عز وجل، هو الذي يستحق المحبة لذاته ولا يستحقها أحد، فإذا أحببنا الأنبياء والرسل إنما أحببناهم؛ لأنهم دلونا على الله عز وجل، فمحبتنا للرسل فرع عن محبتنا لله عز وجل.