للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفرق بين غربتنا وغربة الأوائل وسبب تمكينهم]

هناك فرقٌ بين الغرباء الأوائل وسبب تمكينهم، وبين غربتنا نحنُ وعدم تمكيننا.

انظر إلى مؤتمر صانعي السلام والذي كان أحد أعضائه الرئيس الروسي الذي حارب الشيشان ودهسهم بالدبابات، أهذا يوضع في صانعي السلام؟ وشمعون بيريز الذي ما زالت يده تقطر من دماء المسلمين! إنها المأساة، أو قل: هي الملهاة، فأي غربةٍ للإسلام والمسلمين أعظم من ذلك؟! إن هذا المؤتمر كان سرادق عزاء للقتلى في إسرائيل، كأنما يقولون لهم: لا تخافوا حتى وإن قتل منكم مائة رجل؟ قد حشرنا لكم الدنيا كلها لتؤيدكم، وليقولوا لكم: نحن معكم.

لماذا لم يعقد هذا المؤتمر يوم قتل الوغد الكافر - شمعون - مائة مسلم ساجد في المسجد الإبراهيمي؟ وهناك نشروا بعد حرب الخليج أنهم يفكرون في الدولة البترولية الجديدة التي تخضع للنظام العالمي الجديد، وإن لم يستيقظ المسلمون من غفلتهم فإنهم سينفذون هذا المخطط كما نفذوا حرب الخليج -حرب الخليج تطبق من سنة خمس وسبعين- ما عرفنا هذا إلا بعد نشر المذكرات السافرة، والمفروض أن هذه المذكرات تكون سرية؛ حتى ينفذوا الدولة البترولية الجديدة على الأقل، لكنهم يعلمون أننا لا نقرأ، وإذا قرأنا لا نفهم، وإذا فهمنا لا نفعل، هم متأكدون من ذلك، لذلك ما عندهم سر، السر عندهم علانية، والعلانية سر، إذا كان عدوه بهذا الاستضعاف وهذا الهوان! فالدولة البترولية الجديدة -التي هي المنطقة الشرقية في السعودية مع الخليج- قالوا: ليس معنى أن البترول في أرضكم أنكم ستتحكمون بنا لا، البترول هذا ملك البشرية، وليس من العدل أن توضع مصادر الطاقة في يد جماعة من الأعراب، لابد أن النظام العالمي الجديد والمقصود به هيئة الأمم المتحدة متمثلةً باللجنة الثلاثية والرباعية والخماسية، توزع البترول على العالم، فمثلاً: أمريكا تحتاج الكثير من البترول، فنعطيها، والدول العربية لا تحتاج إلى بترول بالمرة فلا نعطيها، هذا هو النظام العالمي الجديد، وهذه هي الدولة البترولية التي ستكون منزوعة رغم أنف مالكي الأرض، هل توجد غربة أكثر من هذه؟! ويظهرون علينا كل يوم بمثل هذا ونحن نشجب ونستنكر، فلو سمعت عن محجمة دم أريقت في أي مكان في الكرة الأرضية فاعلم أنه دم مسلم، حتى عبّاد البقر الذين هم أذل الخلق أخذوا المسجد وحولوه إلى معبد، وكأنه لا يوجد مليار مسلم على وجه الأرض، كأنهم موتى جميعاً.

هذه غربة طاحنة، أين الغرباء الذين ما عرفوا حقيقة غربتهم؟! اختلف بعضهم مع بعض في قضايا جزئية وسع السلف الخلاف فيها، تعجب لغريب يتشاجر مع غريب وعدوهما ممسك بالسلاح، لابد من دراسة الخلاف، ولابد من معرفة أدب الخلاف، ما وسع السلف الخلاف فيه يسعنا، لسنا أفضل منهم ولا أورع، ولا أفقه في دين الله منهم، ما يسعك فيه الخلاف امض واترك أخاك، وادخر هذا الجهد لعدوك وعدوه أيضاً، نحن غرباء ليست لنا رسالة، وليس لنا هدف واضح.

الصحابة الأوائل كان هدفهم واضحاً كالشمس؛ فانصرفوا بقوة قلبٍ لا يلوون على شيء، إذا لم تستطع أن تعبد الله في أرض، فاتركها، فأنت ما خلقت لتكون مصرياً ولا لتكون سعودياً ولا فلسطينياً، خلقت لتكون عبداً، فإذا عجزت عن تحقيق العبودية في مكانٍ ما وجبت الهجرة، وهذه الهجرة الواجبة إلى يوم القيامة والتي لا تنقطع؛ هجرة تحقيق العبودية لله، الهجرة من السيئة إلى الحسنة، ومن المعصية إلى الطاعة، هجرةٌ دائمة.

قامت الدنيا ولم تقعد حتى الآن على فتوى لشيخنا الإمام، حسنة الأيام، وعالم بلاد الشام، بل عالم ديار الإسلام، الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله ومتع به، لما سأله سائل: قال له: نحن في فلسطين لا نستطيع أن نقيم شعائر ديننا، فماذا نفعل؟ قال: اتركوها.

فقال السائل مستنكراً: نتركها لليهود؟! قال: نعم، اتركوها ثم ادخلوا عليهم الباب.

قامت الدنيا ولم تقعد، وحرفت فتوى الشيخ، فقيل: إن الشيخ يقول هاجروا من فلسطين ودعوها لليهود.

وتعرض للطرد من الأردن بسببها لولا شفاعة الشافعين، أهو قال ذلك أم أن المفتي أسير السؤال؟ صار عندي قناعة: إذا أخطأ عالمٌ في فتوى يكون السؤال خطأً، فنسبة الخطأ للسائل أولى من نسبتها للعالم، فلو لم يكن في المسألة إلا خطأ السائل أو خطأ المجيب لكان إلصاقه بالسائل أولى، السؤال خطأ، فخرج الجواب على مقتضى الخطأ.

لا تستطيع أن تقيم أو تحقق العبودية في أرض ما، لا تكن أسير الأرض، وخذ الأسوة والقدوة من أبي بكر رضي الله عنه، كما رواه البخاري في صحيحه أن زيد بن الدغنة قبل أن يسلم رأى أبا بكر متجهاً إلى ناحية البحر: - فقال له: إلى أين يا أبا بكر؟ - قال: أسيح في الأرض وأعبد ربي.

أخرجني قومك.

- قال: يا أبا بكر! مثلك لا يَخرج ولا يُخرج -خروج مثلك خسارة، سواء خرج من تلقاء نفسه أو أخرج- إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق، ارجع وأنا جارٌ لك.

أنت في حمايتي وفي عهدي، لكن لا تخرج، وذاك مسلم وهذا كافر.

فرجع أبو بكر، وذهب زيد إلى الكعبة ونادى: - يا معشر قريش! أبو بكر في جواري.

خلاص كلمة شرف، والعرب كانوا يحترمونها، فابتنى أبو بكر له مسجداً داخل الدار، ثم بدا له أن يبني مسجده في فناء الدار، وكان أبو بكر رجلاً بكاءً رقيق القلب، إذا قرأ القرآن لا يملك عينيه، وكانت هذه صفة عنده رضي الله عنه، حتى لما مرض النبي عليه الصلاة والسلام مرض الموت، وقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس.

فقالت عائشة: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف -كثير الأسف، كثير الحزن، متصل العبرة- إذا بكى لا يتبين الناس قراءته من البكاء.

فقال: إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس).

(صواحب يوسف): عائشة خشيت أن يتشاءم المسلمون بـ أبي بكر؛ لأنه هو الذي خلف النبي عليه الصلاة والسلام فيتشاءموا به، فأرادت أن تجنب والدها هذا الشعور الذي تشعر به، فقال: إنكن صواحب يوسف: أي تقلن غير الذي في بطونكن، ليست المسألة أن المسألة أنه يبكي أو لا يتبين الناس قراءته من البكاء، فهذه كانت طبيعة الصديق الأكبر رضي الله عنه.

فلما كان يصلي في الفناء كان يبكي، ويتجمع النساء والولدان عليه ليشاهدوه، منظر غريب! أول مرة يرون رجلاً يقرأ ويبكي، فلغرابة المنظر كانوا يتقذفون عليه، فخشي كفار قريش أن يؤمن الناس إذا رأوا هذا المنظر، وسمعوا آيات الذكر تخرج من قلبٍ حار بلسان حار أن يدخل هذا في القلوب، فقالوا لـ زيد: مر أبا بكر فليصل داخل بيته، ولا يستعلم، فإنا نخاف أن يفتن نساءنا وأبناءنا.

فقال زيد لـ أبي بكر: يا أبا بكر! ما على هذا اتفقنا، صل داخل الدار وإلا فرد علي جواري، فإني لا أريد أن يتحدث العرب أني أخفرت جواري، أي شخص يضربك، أو يمتهنك فهذا امتهان لـ زيد، إذاً لم يستطع حماية الذي كان في جواره، فيتحدث العرب أن زيداً لا يستطيع أن يحمي أحداً، فتضيع كلمته، ولا يستطيع أن يجير أحداً.

- فقال: إما أن تصلي في الداخل، وإما أن ترد علي جواري.

- قال: بل أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل.

ورد عليه جواره.

أهذا الغريب يهزم؟ أهذا الغريب يرجع القهقرى؟ لا والله، لو عندنا مائة رجل كالصحابة لفتحنا العالم.