[موقف أبي هريرة مع قدح اللبن وأهل الصفة]
فـ أبو هريرة رضي الله عنه أول ما دخل وجد كوب اللبن فاستبشر، قال: إذاً: سنشرب؛ لكن تبددت فرحته عندما قال له: (أبا هر! الحق بأهل الصفة يشركوننا في هذا اللبن) هو كوب! وأهل الصفة كانوا أربعمائة رجل تقريباً، يعني: لو أن كلَّ واحدٍ شَمَّهُ شَمَّةً لانتهى، وأبو هريرة جائع ويريد أن يشرب- قال: فأحزنني ذلك؛ لأنني كنت أريد أن أشرب شربةً أتقوى بها، وما يفعل هذا اللبن في أهل الصفة ثم شيء آخر أحزنه، وهو أنه طالما أنه دعاهم فهو الذي سيسقيهم، و (ساقي القوم آخرهم شرباً)، إذاً: لن يجد لبناً، لكنه قال: (ولم يكن من طاعة الله ولا طاعة رسوله بُد) أي: فلو مات من الجوع لا بد أن يسمع ويطيع، فذهب فدعاهم، فأقبلوا وجلسوا جميعاً، الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (أبا هر! اسقهم) وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام وضع يده عليه وسمى الله تبارك وتعالى، وأعطاه لـ أبي هريرة، وأبو هريرة أمسك الكوب ليعطيه لواحد يشرب حتى يروي ظمأه، واللبنُ كما هو لم ينقص، فيأخذه أبو هريرة ويعطيه للآخر فيشرب، فيأخذه منه ويعطيه للثالث وفي هذا دليل على أنه ليس من المروءة استخدام الضيف، فـ أبو هريرة لم يترك كلَّ أحد يناول أخاه، بل كان يأخذ ويعطي بنفسه، فليس من المروءة إذا جاءك ضيف أن تقول: يَدُك يا شيخ، خذ معي هذا الكرسي، وضعه هنا، أو تنتظر حتى يأتيك أضياف لتغير وضع البيت، فتنقل الدولاب هنا، والسرير هنا، وتستغل الأضياف، فهذا ليس من المروءة بل الضيف ضيف، يأتي عزيزاً ويأتي مكرماً، ويجلس ولا يفعل شيئاً.
قال أبو هريرة: (فشربوا جميعاً حتى وَصَلْتُ إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فنظر إلي وتبسم) الرسول عليه الصلاة والسلام كان عارفاً أن أبا هريرة حزين، وكان يعلم أنه يهجس في نفس أبي هريرة أنه لن يجد لبناً، لذلك بعدما انتهى أبو هريرة من إعطاء اللبن لأهل الصفة، نظر إليه وتبسم.
(وقال: أبا هر! لم يبقَ إلا أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله! قال: أبا هر! اقعد)، وفي هذا دليل على مشروعية الشرب قاعداً، والخلاف بين العلماء في المسألة معروف، والجماهير على جواز الشرب قائماً، لكنهم يفضلون القعود.
وهنا لطيفة أذكرها: كان الإمام الكسائي إمام اللغة المشهور وأحد القراء السبعة من أصحاب القراءات المتواترة، واسمه: علي بن أحمد - مرة داخلاً على هارون الرشيد، وكان هارون متكئاً، فدخل عليه الكسائي فقال له هارون: اجلس، فقال له: بل (اقعد) يا أمير المؤمنين! يعني الصواب أن تقول: اقعد، لا أن تقول: اجلس، فقال له: وما الفرق بينهما؟ قال: الجلوس يكون من اتكاء، والقعود يكون من قيام.
وهذا أغلب استخدامات العرب، ولا مانع أن يوضع هذا مكان ذاك؛ ومن الممكن أن يوضع الجلوس مكان القعود؛ لكن أغلب استخدامات العرب إذا كان الشخص واقفاً أن يقولوا له: اقعد، وإذا كان الرجل متكئاً يقولون له: اجلس.
وحديث أبي بكرة لما كان الرسول عليه الصلاة والسلام متكئاً فجلس قال: (ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور)، كان متكئاً فجلس.
وحديث ابن عباس في الصحيحين لما اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهراً، فدخل عمر بن الخطاب، فقال: (لم أرَ في البيت شيئاً يردُّ البصر، فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يوسع على أمتك، فإنه وسَّع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله، قال: وكان متكئاً فجلس).
فـ أبو هريرة واقف، قال: (أبا هر! اقعد.
قال: فقعدت، قال: اشرب، فشربت.
اشرب، اشرب، اشرب، ظل يقول له: اشرب حتى قال: والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً) وفي هذا دليل على جواز أن يأكل المرء حتى يشبع؛ لكن القدر المستحب أن يقسم معدته ثلاثة أثلاث، لا أن يملأ الثلاثة أثلاث أكلاً.
بل يترك لنَفَسِه الثلث، وثلثاً لشرابه.
فهنا حين يقول: (والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً) يدل على أنه ملأ بطنه إلى الأخير، فالنبي عليه الصلاة والسلام ما أنكر عليه، وهذا هو الدليل؛ وهو إقرار النبي عليه الصلاة والسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (أرني، قال: فأعطيته الإناء، فسمى الله وشرب الفضلة).
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بالعلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعل ما سمعناه وما قلناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
والحمد لله رب العالمين.