[العلم شجرة والعمل ثمرة]
إن الذي يستحق الحسد ليس هو الذي يتكلم فقط بل الذي يقرن إلى القول العمل، فهذا شرط، وإلا فالذي يتكلم بغير أن يعمل هذا لا يحسد، يحسد على ماذا؟ وقد رأينا أنه تندلق أقتابه من دبره، فهو متعرض لمقت الله عز وجل: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:٣] فعلى أي شيء يحسد؟ إنما يحسد الذي يصبر على العمل، والذي يريد أن يجرب نفسه هل هو من الصابرين أم لا، فلينظر هل هو يصبر على طاعة الله عز وجل، فهذه أول منازل الصابرين، الذي يصبر على الطاعة كما قال الحسن البصري رحمه الله، الذي قال فيه بعض العلماء كلامه يشبه كلام الأنبياء من حلاوته وطلاوته، يقول: (يا ابن آدم تركك للمعصية أهون من طلب التوبة) انظر الكلام الجميل، إذا كنت تبحث عن الأهون، لماذا؟ لأنك عند طلبك للتوبة لا تدري أيتجاوز الله عنك أم يأخذك بهذه السيئة، فأنت محتار هل قَبِلَ الله عز وجل توبتك أم ردها عليك، في حين أنك لو تجنبت المعصية لم تدخل في هذه الحسبة.
يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون:٥٧] * {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:٥٨] * {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:٥٩] * {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:٦٠]، قالت عائشة: (يا رسول الله! أهذا في الزاني يزني والسارق يسرق: أي: يفعل الفعل وهو خائف من الله؛ لأن مرده إلى الله (أنهم إلى الله راجعون) أي لأنهم سيرجعون إلى الله، قال: لا يا ابنة الصديق، هؤلاء أقوام يصلون ويزكون ويتصدقون، ويخشون أن لا يتقبل منهم) فإذا كان العبد الصالح وهو يقدم الإحسان ويفعل المعروف وجل وخائف أن ترد عليه طاعته، فما بالك بالذي ارتكب المعصية، ما يدري هل يأخذه الله تبارك وتعالى بهذه المعصية أم يتوب عليه، يضل دائماً قلقاً، لذلك فإن تَرْك المعصية أخف من طلب التوبة.
فالذي يقرن العمل بالقول هذا هو الذي يحسد عليه صاحبه، وهذا القيد مهم؛ لأن في بعض الأحاديث لم يرد (يقضي بها)؛ لذلك كان العلماء يحضون الذي يريد أن يستخرج معنى من المعاني أن يجمع جميع طرق الحديث وجميع ألفاظ الحديث، فيضم بعضها إلى بعض ثم يخرج بالمعنى المتكامل، وإلا ففي بعض الأحاديث ترى التنبيه على جزئية، وفي الحديث الآخر يكون التنبيه على جزئية ثانية، فإذا ضممت الحديثين إلى بعض اكتمل لك المعنى.
فالذي يستحق الحسد هو الذي يعمل بما يعلم، ومن أزكى الثمرات التي تعود على صاحب العلم الذي يستحق الحسد، أن يكون عالماً بموضع قدمه، فلا يضخم ما ليس بضخم، ولا يصغر ما هو ضخم، وهذه الحقيقة من أهم العوامل التي أدت إلى انقسام المسلمين في الفهم، فترى بعضهم يتعامل مع الفروع كما لو كان يتعامل مع الأصول الجسيمة، فإذا رأى أحداً يحرك إصبعه يصل به الحال إلى ما لا يخطر ببال، وهذا حدث في أفغانستان؛ لأن أغلب الأفغان أحناف في الفروع، وهناك فتوى عند الأحناف أن هذه الحركة تبطل الصلاة، فواحد صلى وحرك إصبعه، فبعد أن انتهى من الصلاة قام الذي يصلي بجانبه يقول له: السلام عليكم وكسر له إصبعه.
وكأنه لا ندري ما معنى السلام عليكم، لأن السلام يعني أن لا تمسه بسوء هذه معنى السلام عليكم، ولكن صار التسليم تسليماً أجوف، بحيث أنه يخرج من الصلاة بغير أن يفقه معنى السلام عليكم.
كما أن كثيراً من المسلمين لا يفقهون معنى الله أكبر إذا نادى بها المؤذن، فإن معنى هذه الكلمة العظيمة (الله أكبر) أي: أكبر مما في يديك، إن كنت تعمل فالله أكبر من عملك، إن كنت تكتب فالله أكبر من كتابتك، إن كنت تفعل أي شيء فالله أكبر من ذلك الشيء، فيجب عليك أن تتوجه إلى الأكبر.
لذلك كان بعض الصحابة إذا سمع (الله أكبر) وهو يطرق الحديد، فإنه يرمي بالمطرقة وهفي في الهواء ولا ينزل بها على حديدته، مع أنه لا بد أن ينزلها، لكن هناك فرق بين أن ينزل فيطرق بها وهذا من جنس عمله، أو أن يرمي بها عندما يسمع الآذان.
كذلك اجتماع المسلمين في الصلوات الخمس ما استفادوا بهذا الاجتماع شيئاً، وفي هذا المعسكر ربما نقعد أسبوعاً ونصلي الصلوات الخمس في جماعة، وأنا أؤكد أنه بعد الانصراف منه يوجد بعض الإخوة لا يعرف بعضاً لا اسماً ولا مسمىً، وتجد الواحد بجانب أخيه في المسجد منذ خمس سنوات، ومع ذلك لا يعرف اسمه ولا يعرف بيته، وإذا غاب سنة لا يسأل عنه.
يوجد عندنا في مسجد الجامعة الشرعية رجل كان يصلي بل من أوتاد المسجد كما يقولون، وغاب فترة ثلاثة شهور أو أربعة، فجرى حديث مع بعض رواد المسجد فقال أحدهم: فلان الله يرحمه فقال له آخر: أوقد مات؟ قال له: نعم مات، ولا حول ولا قوه إلا بالله، فقال له: والله ما أعرف، وقد يكون صلى بجانبه أربع سنوات، ثم هو لا يعرف عنه إذا غاب ولماذا غاب؟ الصحابة لم يكونوا كذلك؛ وهذا هو الفرق في ثمرة العلم، ليس الفقيه هو الذي يجمع الفقه النظري، إنما الفقيه فقيه النفس، كما قال عليه الصلاة والسلام: (رب مبلغ أوعى من فقيه)؛ لأن الفقه فقه النفس، ففي وقتنا الحاضر يظل الرجل بجانب أخيه تلتصق قدمه بقدمه وكتفه بكتفه في الصلوات الخمس وإذا غاب لا ينزعج أنه غاب، ولا يشعر أنه افتقد شيئاً، بخلاف الصحابة الذين كانوا إذا غاب أحدهم يسألون: لم غاب فلان؟ لأن هذا السؤال فرع عن المحبة القلبية الحقيقية، والتي هي أيضاً فرع عن العلم النافع، فإذا غاب أحدهم يسأل عنه إخوانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:١٠]، ويقولون في الأمثال إذا الواحد انزعج فإنما يقول: أخ، وذلك لقرب الأخ منه، لكن لأننا لم نحقق هذا العلم على المستوى الواقعي ليس له ظل حقيقي، فصار هذا العلم وجوده كعدمه.
لما اختلف عبادة بن الصامت رضي الله عنه مع معاوية بن أبي سفيان -وكان هو الأمير- في مسألة الذهب بالذهب مثلاً بمثل يداً بيد، فـ معاوية رضي الله عنه لم يكن بلغه الحديث فكان يقول: لا بأس، فنبهه عبادة بن الصامت أن هناك حديثاً بخلاف ما يقول، فلأمر ما أو لفهم ما خالف معاوية رضي الله عنه ظاهر الحديث وقال: لا أرى بأساً، فقال عبادة: أقول: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقول: لا أرى بأساً، لا ساكنتك في أرض، وأخذ عياله ومتاعه وركب وخرج من الشام إلى المدينة المنورة.
انظر حساسية الصحابة من مخالفة النبي عليه الصلاة والسلام، يترك الدار والوطن غيرة لله، فذهب يصلي الفجر فرآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المدينة، وعمر آنذاك يعرف من في المدينة فرداً فرداً.
فبمجرد ما رأى عبادة قال: ما جاء بك يا أبا محمد، فهو يعلم أين خرج عبادة وغيره من الصحابة رغم أنهم كانوا بالألوف، قال أبو زرعة الرازي: حج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائه ألف في حجة الوداع، فمن تفرق في الأمصار كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعرفه، فإذا جاء أحدهم علم أن هذا قادم من سفر.
قال عبادة لـ عمر بن الخطاب: قد كان بيني وبين معاوية كيت وكيت.
فقال عمر: (قبح الله أرضاً لست فيها وأمثالك يا أبا محمد، ارجع إلى معاوية فأحمله على هذا فإنه الأمر) أي: ما قلته هو الصواب، ورجع عبادة بن الصامت.
ويؤثر أيضاً أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه افتقد رجلاً فذهب فسأل عنه، فقالوا: هو مريض، فذهب إليه، فلما قرع الباب قال: من؟ قال: عمر بن الخطاب، فقفز الرجل وفتح له الباب.
فقال له: عجبت لك يناديك الله تبارك وتعالى من فوق سبع سماوات (الله أكبر) فلا تجيبه، ويناديك عمر بن الخطاب فتجيبه.
ما يفوته أن يلفت نظره برفق إلى هذا المعنى، وإنما ورثوا مثل هذا عن النبي عليه الصلاة والسلام معلم الإنسانية الخير، فإنه كما في الصحيحين افتقد ثابت بن قيس الأنصاري، قال: أين ثابت؟ فقال جارٌ له: ليس بمريض، يعني لفت نظره أن ثابتاً غير موجود، فأرسل من ينظر هل هو مريض أم لا، فلما ذهب إليه وجده في الدار يبكي، فلما سأله عن ذلك وكان رفيع الصوت، أي: إذا تكلم كان صوته عالياً، فكان يرفع صوته بطبيعته عندما يتكلم، فلما نزل قول الله عز وجل: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:٢] فظن أن عمله حبط لمجرد أنه كان يرفع صوته عند النبي عليه الصلاة والسلام، فاعتقد في نفسه أنه من أهل النار وأن عمله قد حبط، فقعد في داره يبكي.
فلما رجع الرسول قال: (يا رسول الله! إنه في بيته يبكي، ويقول: إنه من أهل النار؛ لأنه كان يرفع صوته بين يديك، قال: لا، بل هو من أهل الجنة)، قال أنس راوي الحديث: فكان يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة.
فمثل هذه الثمرة لا يستحق المرء أن يقطفها إلا إن كان فقيه النفس، وفقه النفس لا يحصله المرء إلا بعد أن يصل إلى العلم، وأعظم الثمار هي الثمار العملية، وآخر شيء في المسألة كلها أنك تقطف الثمرة.
فهذا هو الذي يستحق الحسد، لا الذي يجمع العلم من أطرافه، وإذا تكلم لا يستطيع أحد أن يجادله؛ لما أوتي من البيان والجدل، ليس هذا بعالم، فمثل هذا الطراز تسجر به نار الجحيم.
ذكر الذهبي في الميزان في ترجمة بعض العلماء ولا أحب ذكر اسم هذا العالم ستراً عليه، وهذا من أضلع العلماء في علم أصول الفقه، و