للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ظاهرة تحلل المسلمين من دينهم]

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

ذكر أحد الوزراء في مذكراته أنه بينما كان على مأدبة عشاء أو غداء -وفيها الخمر بطبيعة الحال؛ لأنها كانت في بلاد أوروبا- فإذا به يمسك السكينة بيده الشمال ويمسك الشوكة بيده اليمين ويأكل، قال: فرأيت غضباً على وجوه بعض من كان على المائدة، يعني: الجهة التي استضافت هذا الوزير، قال: وكادت أن تحدث أزمة دبلوماسية بسبب أنه أكل بيده اليمنى، لولا أنه تدخل شخصياً وقال: إنها عادة! ونفى أن يكون فعلها لأنه نهي عن الأكل بالشمال.

هذا موقف عابر لعل المرء يقرؤه وهو غير عابئ به؛ لكنك إذا تأملت هذه الكلمات، واستحضرت عداوة عدوك ولم تنسها -على عادة المسلمين بعد ما ضعفت ذاكرتهم- وجدت أن هذا الموقف يمثل معانٍ كثيرة، ما الذي يغضب هذا الرجل أن يأكل المسلم بيمينه أو أن يأكل بشماله؟ ما الذي يضره؟ ولماذا كادت أن تحدث أزمة دبلوماسية حتى اعتذر الوزير شخصياً باسمه، ولعله اعتذر باسم الدولة عن هذا الفعل.

ما الذي يعني هؤلاء أن يأكل كل إنسان كيفما يشاء، وهم في حريتهم الشخصية يقولون: إن أراد أن يمشي عارياً فله أن يمشي عارياً؟ لماذا يا قوم لا تقولون: وإن أراد أن يأكل بيمينه أكل؟! هؤلاء الناس لا يخففون المنكرات، فرضوا علينا الرسميات التي تناقض ديننا أظهر مناقضة، فخرجت النساء كاسيات عاريات، ولا مانع أن يقبّلها الرئيس الآخر، وقد رأينا هذا على شاشات التلفزيون، فهذا لا مانع منه لأنه تحضر، ولو أننا تمسكنا بديننا نكون قد رضينا بالرجعية، ونحن نبرأ من الرجعية ومن أهلها، وهؤلاء تقدموا بغير دين، والذي أخرنا هو الدين، هذا هو فحوى ما يدعو إليه العلمانيون في الجرائد الرسمية: (الدين لله والوطن للجميع)، عبارة كافرة ابتدعها سعد زغلول المارق.

اقرءوا مذكرات سعد زغلول هذا البطل القومي الوطني، فقد كان يشرب المخدرات والخمر، ورغم ذلك يعتذر عنه عباس العقاد قائلاً: إن الأطباء كانوا ينصحونه أو يأمرونه بشرب الخمر لقرحة في المعدة، فقبل أن يذهب إلى النمسا كان شخصاً، وبعدما رجع قال: (الدين لله والوطن للجميع) أي: الدين هو عبارة عن شعائر وعلاقة بينك وبين ربك، لا مجال له في الواقع العملي، أما الوطن فهو للجميع وفيه غير المسلم.

هذه فحوى العلمانية، والقائم عليها حزب الوفد الذي أسسه سعد زغلول، ولما اندرج الإخوان المسلمون في حزب الوفد الجديد وصاروا يدعون إليه، وكسب الوفد ونجح، بدأ التخلص من الإخوان شيئاً فشيئاً، وعللوا ذلك بقولهم: إن الحزب يوم نشأ نشأ علمانياً، يعني أن الإخوان المسلمين يريدون أن يديروا العجلة إلى الدين، وهذا الحزب يوم نشأ نشأ علمانياً، وأخطأ الإخوان المسلمون في تأييدهم لهذا الحزب.

هذه الدعوة التي تفصم المسلم عن دينه، هي ما يريدونه في الخارج، وهم يربون أجنادهم عليه، فالأكل باليمين أو بالشمال لا يعني الغرب في شيء، لكن لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (نهى عن أن يأكل المسلم بشماله أو أن يشرب بشماله) تدبر أخي المسلم بأي يد تأكل وترفع الطعام إلى فمك، لا ترفعن طعاماً ولا شراباً إلى فمك بيدك الشمال أبداً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم علل النهي بقوله: (فإن الشيطان يأكل بشماله) من منكم يريد أن يتشبه بالشيطان؟ فالأكل باليمين يحدث أزمة، لكن خرتشوف في مباحثات هيئة الأمم المتحدة في الستينيات خلع نعله ووضعه على مائدة المفاوضات أمام المندوب الأمريكي وغيره من أعضاء الدول التي لها حق الفيتو، فما جرؤ أحد أن يتكلم، ولم ينبس أحد ببنت شفة، ثم رجعوا أحباباً.

إن دول المسلمين يجب أن تعود إلى دينها، إن العزة كل العزة في هذا الدين وفي العصبية له، إن العصبية لهذا الدين شرف بل هو محض الإيمان، وانظر إلى هذا الموقف في غزوة أحد، لما قتل من المسلمين نفر كثير بسبب مخالفة الرماة الذين تركوا مكانهم على الجبل، وكشفوا ظهر المسلمين، وخالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ورجع خالد فقتل من قتل، فقُتل سبعون من خيرة المسلمين منهم حمزة أسد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم، ودخلت حلقات المغفر الحديد في وجنته، وجالد عنه طلحة كأشد ما يكون الرجال، وجالدت نسيبة بنت كعب هذه المرأة التي تساوي أمة من أشباه الرجال، وناضلت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وترّس عليه أبو دجانة حتى كانت السهام تقع في ظهره ولا يتحرك حتى لا يصل سهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وبعدما انتهت الغزوة انحاز النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر ونفر وقعدوا في سفح الجبل، وعلا أبو سفيان على قمة الجبل ثم قال لهم: أفيكم محمد؟ وكان الشيطان قد صرخ بأعلى صوته: محمد مات؛ حتى حدث هرج ومرج في صفوف المسلمين -يطول الأمر بذكره- فوقع في نفوس المشركين أن النبي صلى الله عليه وسلم مات، فأراد أبو سفيان أن يتشفى بموت النبي صلى الله عليه وسلم فصعد على قمة الجبل وقال: أفيكم محمد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تجيبونه؟ قال: أفيكم أبو بكر؟ قال: لا تجيبوه؟ قال: أفيكم عمر؟ قال: لا تجيبوه) فظن أبو سفيان ومنته نفسه أن هؤلاء قتلوا؛ فثارت حمية الجاهلية في قلبه ثم قال بأعلى صوته: اعل هبل!! وهو صنمهم، كأنه يقول: مات الذين كان الإسلام يقوم بهم، حينئذٍ: (اعل هبل وارجع إلى مكانتك)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وثارت الحمية في قلبه لدينه: (ألا تجيبونه؟) وهو الذي قال في المرة الأولى: لا تجيبوه! لكن لما جاء الأمر على استنقاص الدين قال: (ألا تجيبوه؟)، يعني: لا يجوز لكم أن تتأخروا في الرد عليه، (قالوا: فما نقول يا رسول الله؟! قال: قولوا: الله أعلى وأجل، فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا غرى لكم، قال: ألا تجيبونه؟! قالوا: بم نجيبه؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، فقال عمر: لا يا عدو الله، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار).

ففي المرة الأولى لما سأل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعمر قال: (لا تجيبوه) لماذا؟ لأنه إنما ينطلق من الغل والحسد والتشفي، ومن الفطنة أنك إذا رأيت حسوداً أن تدعه يأكل بعضه؛ لإنك إن رددت على الحسود وجد له متنفساً ورد عليك، وروى غيظ قلبه في الرد عليك، لكن أن تدعه كالكلب ينبح لا تعيره اهتماماً، فإن هذا يزيد من وطأة الألم على نفسه، على حد قول الشاعر: اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله فتركه النبي صلى الله عليه وسلم يموت بغيظه ولم يشف غيظه بالرد عليه، فكان ترك الجواب أفضل وأحسن، ولكن لما أراد أن يستعلي ويقول: اعل هبل، ويطعن في عقيدة التوحيد؛ أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه بعزة من عبده المسلمون وبسيادته على هذا الكون فقال: (ألا تجيبونه؟ فقالوا: وبم نجيبه؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل).

حمية الحب لهذا الدين لا يجوز لك أن تتخلف عن نصرته، بل عليك أن تنمي وتغذي هذه العصبية، وهذا الإيمان الحار في قلبك.

إننا نحتاج إلى العصبية في هذه الأيام أكثر من احتياجنا إليها في أي أيام مضت؛ لكثرة الدعوات الانحلالية والاباجية، ولكثرة جنود العلمانية، الذين ينشرون كفرهم في كل صحيفة رسمية وغير رسمية بدعوى حرية الرأي.

لماذا لا تعدلون؟ لماذا تكيلون بكيلين وتلعبون على الحبلين؟ فكما قلت لهذا: لك حرية الرأي ولك الجرائد الرسمية، أتيحوا لنا الجرائد الرسمية إذاً حتى نرد، ونبين للناس وهاء دعوى العلمانية.

إن شيخ الأزهر شخصياً يشكو أنه يرسل رده إلى الجرائد الرسمية ولا تنشره، وهذا أكبر علاّمة في البلد، فإن كان هذا هو التصرف مع أكبر علاّمة فرحمة الله علينا، فإذا كان شيخ الأزهر يشكو أنه يرسل الرد، ولكن لا ينشرونه له، ويأتي هؤلاء فيكتبون المذكرات وينشرون الكفر والإلحاد بدعوى حرية الرأي.

فإذا مشت المرأة (بالمايوه) قيل: اتركها عارية، لا يحل لك أن تكبت حرية المرأة ولا حرية الرجل، كل إنسان يفعل ما يريد، فإن لبست المرأة النقاب وأرادت أن تدخل الجامعة؛ قالوا: لا.

أين يا قوم الحرية المزعومة التي تزعمونها؟ أنا حر! أفعل ما أريد، لا.

أنت لست حراً، هو حرٌ وأنت لست حراً، هذا هو لسان الحال ودعك من المقال، دعك من الزيف المنشور، ولنكن في الواقع؛ لأنه سيد الأدلة، أنت لست حراً بل أنت مضطهد وهو حر، إن فعلت أي شيء من باب الحب لدينك، فأنت متعصب، ولماذا لا تنزل إلى الدركة الدنيا، وإذا أخذت بعوالي الأمور وعزائمها؛ قالوا: هذا تشدد وتنطع نهى الله عنه! فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال: (هلك المتنطعون)، مثل الذين قالوا: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:٤].

كما قال شاعرهم: ما قال ربك: ويل للأولى سكروا وإنما قال: ويل للمصلينا ما قال أن هناك ويل للذي سكر وسرق، إنما قال: ويلٌ للمصلين، يسمونها بغير اسمها، ويدلسون على الناس.

أيها المسلم! أنت الآن في مفترق الطرق، وحولك دعوات كثيرة تزين لك الانحلال، وتبين لك أن التمسك بدينك تعصب، ارفض هذه الدعوات، وامض في طريقك إلى ربك يلهمك رشدك.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدمنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في دي