[بطلان قصة الغرانيق]
زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:١٩ - ٢٠] ((تلك الغرانيق العلا)) ((وإن شفاعتهن لترتجى)) قال له جبريل: أنا ما أتيتك بهذا، أنا ما أنزلت عليك هذا الذي تقرأ.
فيزعمون أنه صلى الله عليه وسلم قال: قد افتريت على الله.
فأنزل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج:٥٢ - ٥٣].
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى) معنى (تمنى): أي تلا وقرأ، ومنه قول حسان بن ثابت في عثمان: تمنى كتاب الله أول ليلة .................. أي: قرأ، فمعنى (تمنى) هنا: أي قرأ وتلا: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى) أي: قرأ (أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِه) أي: بينما هو يقرأ إذ الشيطان يدس شيئاً في قراءته: (فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ) ويبطله (ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ) فلا يصير فيها لبساً ولا إدخالاً من الشيطان: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فيقولون: إنه صلى الله عليه وسلم لما أدخل الشيطان على قراءته -وهو يقرأ-: ((تلك الغرانيق العلا)) ((وإن شفاعتهن لترتجى)) سجد المشركون والمسلمون جميعاً، وقال المشركون: ما ذكر آلهتنا قبل اليوم بخير، ولا نرى إلا أنه داهننا وامتدح آلهتنا؛ فسجدوا لذلك إلا رجلاً واحداً وهو أمية بن خلف، ما رضي أن يسجد، وأنف من ذلك، وأخذ حفنة من تراب ووضعها على جبهته.
هذه القصة ليس لها إسناد صحيح، وهي باطلة.
ولو جاءت بأصح الأسانيد لجزمنا أنها باطلة بغير تردد.
إن في إثبات هذه القصة تضييعاً للعصمة التي يمتاز بها الأنبياء.
أرأيتم إلى نبي يدخل عليه الشيطان شركاً وكفراً صريحاً، ثم لا يعلم أن هذا من الكفر أو الشرك، ثم لا يعلم أن هذا من إدخال الشيطان عليه؟! إن في إثبات هذه القصة تضييعاً للقرآن ذاته، فيأتينا ملحد يقول: لعل هذه الآية من إدخال الشيطان على النبي وهو لا يدري.
(((تلك الغرانيق العلا)))! (غرانيق): جمع غرنيق، أي: تلك الأصنام علية المنزلة.
ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم من يوم أن بعث؟ ألم يبعث بمحاربة هذه الأصنام وتحطيمها؟! كيف يأتي بعد ذلك فيمدحها بأنها علية، لها شأن علي؟! (تلك) اسم إشارة للبعيد، ويقولون: إن استخدام اسم الإشارة للبعيد يفيد علو المنزلة، كقول الله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:٢] بخلاف: (هذا الكتاب لا ريب فيه)، (ذلك): اسم إشارة للبعيد، أي أنه يفيد بعد المنزلة وعلوها، فعندما يقول: ((تلك الغرانيق العلا)) فيشير إليها بهذا التعظيم الذي يحمل في طيات اسم الإشارة، ثم هذا التصريح (العلا) بأنها علية.
((وإن شفاعتهن لترتجى)) أي أنك إذا ذهبت إلى صنم وطلبت منه الشفاعة لكان ذلك مما يرجى منه! لو أن عبداً من عبيد الله من المسلمين صرح بهذه العبارة ثم اعتقدها؛ لكفرناه بلا خلاف.
لو زعم أن هذه الأصنام تنفع وتضر، وأنه لو استشفعها لشفعت له؛ لكفرناه بلا خلاف.
أيمكن أن يصدر هذا من النبي صلى الله عليه وسلم ثم لا يعلم أهذا شرك أم توحيد؟!! هل هذا معقول؟!! النبي عليه الصلاة والسلام الذي علم الناس التوحيد لا يعلم إن كان مدح الأصنام من جملة الكفر أو من جملة التوحيد؟!! ثم إن سياق سورة النجم يندد بهذه الأصنام، يندد بها، كيف يستقيم تنديد ومدح في ذات السياق؟! إن هذا لا ينطلي على أضعف الناس نظراً في العربية والسياق، فكيف ينطلي على رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! لم يصح سند لهذه القصة، ولو جاءنا (مالك عن نافع عن ابن عمر أصح الأسانيد) لجزمنا ببطلان هذه القصة؛ لما فيها من الجور والحيف على إثبات العصمة له صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من العمد والخطأ والسهو في حال البيان، في حال إبلاغ القرآن: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:٦٧].
ذهب بعض العلماء إلى أن العصمة هنا هي العصمة في البلاغ، وأنه لا يدخل في تبليغه عليه الصلاة والسلام تحريف قط، لا عمداً ولا سهواً.
والتفسير الثاني للعصمة: أن الله يعصمه من الناس، أي: لا يقتل، يضمن له أنه لا يقتله أحد، وهذا لعله التفسير الأرجح، أنه لن يقتله أحد حتى يبلغ ما أمره الله تبارك وتعالى به.
يأتي رجل يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام امتدح الأصنام لأجل مصلحة الدعوة؟! ليحتج بهذا على إثبات طواف هؤلاء حول المقابر.
يقول: لماذا تلوموننا وهذا النبي عليه الصلاة والسلام مدح الأصنام حتى يستميل قلوب قريش؟! وقد حدث، فقال: ((تلك الغرانيق العلا)) ((وإن شفاعتهن لترتجى)).