[حديث: (أمرت أن أقاتل الناس)]
حديث ابن عمر وأبي هريرة وأنس وابن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص، وهو حديث متواتر عند علماء الاختصاص وهم علماء الحديث، هذا الحديث أنتم كلكم تحفظونه: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني ودماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله).
يقول فض فوه: هذا الحديث مكذوب بلا شك، ولم يقله النبي صلى الله عليه وسلم أبداً، لأنه يعارض القرآن، وأتى بآيات: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:٢٩] {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:٦] {لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد:٣١] {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:٥٦] {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:٤٨] {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:٢٢].
طالما أنك لست عليهم بمصيطر لماذا تقاتله؟ أيؤمن غصباً؟ طالما أنك لا تهدي من أحببت أتريد أن تدخله بالغصب؟! {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:٩٩] لماذا تقاتله؟! لو قدر الله عليه الهداية لاهتدى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:٢٩]، إذاً: (أمرت أن أقاتل الناس) حديث مكذوب، لماذا تقاتلهم وقد كفل الله حرية العقيدة للناس؟ هل أحد يجيب؟ السواد الأعظم يقف محتاراً يعانون من أمية علمية.
صدق عمر بن الخطاب المحدَّث الملهم قال: (إن القرآن حمال ذو وجوه، فخذوا أعداء الله بالسنن) لذلك أرادوا أن يلعبوا في هذا الصرح، لأن الحجة إنما تقوم عليهم بهذا الصرح، فإذا جاز له أن يلعب به ضاعت الحجة، القرآن حمال ذو وجوه، إنما السنة يصعب اللعب فيها.
رجل لم يتكلم إلا ثلاث أو أربع ورقات يقول لك: كما هو مقرر في الأصول! أنا أحس أنه ماسك أعصابه.
سأبين لكم الآن أنه لا يفقه شيئاً في الأصول، وهذا الإشكال هو شبه فقط، والشبه تزول بالبيان، لأنها لا يصح أن تكون دليلاً، إنما هي شبهة.
الناس: لفظ عام يدخل فيه كل الخلق، إن أسماء الجنس المحلاة بالألف واللام تفيد الاستغراق، والاستغراق يفيد العموم، كما لو قلت: حيوان، هذا اسم جنس، تدخل عليه الألف واللام فتكون (الحيوان)، فالألف واللام إما أن تفيد العهد أو تفيد الاستغراق، العهد الذي هو التخصيص، كما لو قلت: يا أيها الرجل قف، يبقى أنت قصدت رجلاً بعينه، فالألف واللام هنا رغم أنها دخلت على كلمة رجل وهي من أسماء الجنس إلا أنها تفيد العهد، لأنك قصدت رجلاً بعينه ولم تقصد كل الرجال.
يا أيها الرجال! هذا يفيد العهد بالنسبة للنساء؛ لأنه خرج منه النساء والحيوانات والأشجار والرمال فصار يفيد العهد على جنس الرجال فقط، ويفيد الاستغراق على جنس الرجال الذكور، الألف واللام إما تفيد العهد أو الاستغراق.
لكن كيف أعرف أنها تفيد العهد والاستغراق؟ قال: السياق من المقيدات، فلفظة الناس رغم أنها تفيد العموم إلا أنها مرة تفيد الخصوص ومرة تفيد العموم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تجدون الناس كالإبل المائة، لا ترى فيها راحلة)، يعني أن الناس مثل مائة ناقة، لكن التي تستطيع أن تركبها واحدة فقط، فالناس كثير، لكن الذين تنتفع بهم من الناس أقل القليل، هذا معنى الحديث، فالناس هنا لفظ عام يراد به الخصوص.
كما قال الطحاوي في مشكل الآثار.
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:٢٧] الناس هنا تفيد الخصوص أم العموم؟ تفيد الخصوص، لأن اليهود من الناس والآية لا تخاطبهم، والنصارى من الناس والآية لا تخاطبهم، المجوس بقية الخلق، الآية تخاطب المسلمين فقط، وليس كل المسلمين، فهي لا تخاطب الأطفال ولا المجانين، ولا تخاطب الذين لم يجب عليهم الحج، ومع ذلك فالآية لا تتناولهم: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:٢٧] فهذا الصبي الصغير ابن ثلاث سنوات لا يدخل في الآية مع أنه من الناس، إذاً: لفظ الناس وإن كان عاماً لكن يراد به الخصوص.
ما الذي أعلمنا أنه يراد به الخصوص؟ السياق، والسياق من المقيدات.
وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:١٥٨] لفظ عام يفيد العموم أم يفيد الخصوص؟ يفيد العموم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى كل الخلق، ويدل على ذلك استخدام لفظة: (جميع) وهي من ألفاظ العموم، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:١٥٨] مثل لفظة: كل، ومثل لفظة: معاشر, (إنا معاشر الأنبياء) وهذه تفيد العموم.
بعد هذا البيان نأتي إلى هذا الحديث: (أمرت أن أقاتل الناس) فيدخل فيه المسلمون دخولاً أولياً، لأن الأصل في الأدلة العموم -كما يقول الشاطبي - وليس الخصوص، والأصل في الأدلة الإطلاق وليس التقييد، والأصل في الأدلة عدم النسخ وليس النسخ، يبقى الأصل في الأدلة العموم، فنحن نتعامل مع لفظة (الناس) على أنها من العموم حتى نصل ونرى هذا الرجل كيف فهم هذا الحديث.
(أمرت أن أقاتل الناس) يدخل في الناس المسلمون، هل المسلمون مقصودون بالحديث أن الرسول سيقاتلهم؟ لا.
لأنهم مؤمنون، إذاً المسلمون خرجوا من الحديث، فالناس مؤمن وكافر، والمؤمن غير مراد من الحديث لأنه آمن، بل أنت تقاتل به، وهو من جنودك، إذاً ما بقي إلا الكافرون، الكافرون قسمان: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:٢٩] كلمة (حتى) لفظ لانتهاء الغاية، يعني: سنقاتلكم حتى تدفعوا الجزية، فإذا دفعتم الجزية فلا نقاتلكم.
إذاً: الكافرون قسمان: قسم دفع الجزية وهو صاغر، إذاً هل هو داخل تحت الحديث؟ لا.
ليس داخلاً تحت الحديث؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى قال: قاتلوا حتى فإذا دفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فلا يحل لنا قتالهم.
القسم الثاني: المناوئ للدعوة، الذي لا يريد أن يدفع الجزية والذي لا يريدك أن تنشر الإسلام، هذا هو المعني بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) وهذا الكلام ليس فيه غموض، ولا يوجد فيه أي إشكال.
ولو أتى الأمر من بابه! لكن علامة أهل البدع أن يحطم كل الرءوس أمامه حتى يبقى هو الوحيد الذي يرجع إليه، يعني: جماعة التكفير قبل أن يكسر الله عز وجل شوكتهم، أول أصل من أصولهم: هم رجال ونحن رجال، وثاني أصل قولهم: هذه طواغيت، أي: لا تحتج بـ الشافعي وعندك القرآن والسنة، ربنا سبحانه وتعالى قال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٤٣] يقول: يا أخي! أنا من أهل الذكر اسألني، لماذا حجرت أهل الذكر عليك أنت، وجعلت نفسك في موضع الحجة؟! لأني سأعارضه بأقوال الآخرين فيضيع بيانه، وتضيع حجته، فحتى لا أحتج بقول الآخرين فيضيعهم لك الكل، ويدمرهم جميعاً، حتى لا يبقى في الساحة إلا هو.
فأنت إذا أردت أن تحتج بقولهم يقول لك: لا.
اجعل من نفسك رجلاً يبحث عن الحق، أنت تعتقد شيئاً ناقشني يا أخي! رأساً برأس، فإن كنت أنا رجلاً عامياً، ما عندي أسلوب في إقامة الحجة، ولا درست.
والله عز وجل لما قال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٤٣] أعلمنا أن الناس عالم وجاهل، ولو كان كل الناس علماء فمن يسألون؟ فمعنى: (اسألوا أهل الذكر) أي: أيها الجهلاء اسألوا من هم أعلم منكم، فهذه الآية أثبتت أن هناك عالماً وجاهلاً، فأنا رجل جاهل، يقول لك: لا، لابد أن تستدل بالقرآن والسنة، وإلا فأنت على ضلال.
هذه أول درجة في سلم المبتدعة: أنه لا حجة لأحد، فهو عندما يأتي يناقش يضيع كل العلماء، نقول: العلماء جمعوا بين هذه الأحاديث، فهل من العقل أن هذه الشبهة مرت على علماء المسلمين، وهم كانوا يأتون بشبه لا تخطر على باله ويحلونها؛ خشية أن يتطاول على الناس زمان فتصير الشبهة دليلاً؟! كانوا يقترضون اقتراضات ويقوم العالم فيحل هذه الافتراضات ويرد عليها خشية أن يأتي زمان مع ضعف العلم فيتصورونها أدلة.
ما بقي من الناس إلا صنف واحد من المشركين، الناس إما مؤمن وكافر، فلا خلاف أن المؤمن لا يتناوله الحديث، فما بقي إلا الكافر.
الكافر قسمان: قسم يدفع الجزية وهو صاغر، إذاً هذا لا يحل لنا أن نقاتله بنص الآية، ما بقي إلا الصنف الثاني من الكفار، وهو الذي لا يريد أن يدفع الجزية، ثم هو يناوئني ولا يمكنني من نشر ديني في ربوع بلاده، هذا هو الذي عناه النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الحديث.
ومما يدل على ذلك دلالة أكيدة قوية ما رواه النسائي رحمه الله وأحمد وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل المشركين حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فلفظة (المشركين) دلتنا على أن لفظة (الناس) خرجت مخرج العموم لكن يراد بها الخصوص، وأفضل ما فسر به الحديث، الحديث نفسه، وأفضل ما فسر به القرآن، القرآن نفسه، وهذا معروف، وإذا لم تجمع ألفاظ الباب لم يظهر لك فقهه، وهذا معروف عند العلماء.
فأي غرابة حتى نعارض بين الآية والحديث: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:٢٩].
أنا أريد أن أقول له ش