[الإيمان والتجارة الرابحة]
ومثال ثالث على الإيمان وأثره في الاستقامة على شرع الله وإيثار الآخرة على الدنيا: أبو الدحداح رضي الله عنه له قصة رويت بأكثر من لفظ، وسأذكر لفظاً هو صحيحاً: روى البزار وغيره: (أن أبا الدحداح رضي الله عنه كان عند النبي عليه الصلاة والسلام يوماً، فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قوله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:٢٤٥]، فقال أبو الدحداح: يا رسول الله! الله يريد منا القرض؟ قال: نعم، قال: عندي حائط في المدينة -وكان في هذا الحائط ستمائة نخلة، ونعلم أن البضاعة الرائجة في زمانهم كانت هي التمر- مالي عند ربي إن أقرضته حائطي هذا؟ قال: لك الجنة، قال: فإني أشهدك أنني أقرضت حائطي هذا ربي، وخرج من المجلس وذهب إلى البستان، وكان في داخل البستان زوجته وأولاده، فوقف على الباب، وقال: يا أم الدحداح، اخرجي بأولادك فإني أقرضت حائطي هذا ربي، فقالت المرأة: ربح البيع يا أبا الدحداح).
انظر إلى استعلاء المرأة بالإيمان، ما قالت له مثلاً: أنت ضيَّعتنا، لو كنت تبرعت بثلاثمائة نخلة فقط، وأبقيت لنا ثلاثمائة ما أبقيت لأولادك؟ وما إلى ذلك.
لماذا؟ لأنها استعلت بإيمانها، وأبو الدحداح لم يدخل البستان؛ لأنه لم يعد يملكه لأنه أقرضه لله تبارك وتعالى، لذلك وقف على باب البستان، وقال: (اخرجي بأولادك، فإني أقرضت حائطي هذا ربي)، وقد صح عن أبي طلحة الأنصاري نحو هذا، وأنه لما نزل قوله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:٢٤٥] قال: يا رسول الله، عندي بستان كذا وكذا، فهو في سبيل الله، فقال: قسمه ما بين أقربائك وذوي رحمك، فنزلت الآية.
بخلاف اليهود حيث قالوا عندما نزلت الآية: افتقر رب محمد، إنه يطلب القرض، أما الصحابة فقد استجابوا لذلك وقدموا لأنفسهم، فالقرآن كما ذكر الله تعالى يكون هدى وشفاء لأقوام، ويكون عمى على آخرين.
وهذا كله كان فرعاً عن محبتهم للنبي عليه الصلاة والسلام، حيث كانوا يفدونه بالآباء والأمهات والأنفس.
كما صح في صحيح البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين، قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! أنت أحب إليَّ من كل شيء إلا نفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال: أنت الآن أحب إليَّ من نفسي، قال: الآن يا عمر)، فانظر لماذا استثنى عمر رضي الله عنه نفسه أولاً؟ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يذكر النفس في الحديث، وإلا فهل تتصور إذا كان الحديث هكذا (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده ونفسه والناس أجمعين).
أكان ممكناً أن يقول عمر: أنت أحب إليَّ من كل شيء إلا نفسي؟ هذا غير ممكن، فلذلك لما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، قال: فأنت الآن أحب إلي من نفسي).
وهذا يعني أن هذا الحب كان جاهزاً في نفس عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فلذلك الصحابة عندما كانوا يسمعون النصوص كانوا يلتزمون بها، بخلاف كثير من الأجيال المتأخرة قد يسمع النص ويخالفه، فإذا قلت لأحد مثلاً: اتق الله، يقول: اللهم اجعلني من المتقين، وهو واقع في المخالفة، فهو ما يخشى من ذلك، مع أنه يقول: اللهم اجعلني من المتقين.
أما الصحابة فلم يكونوا كذلك.
ففي الحقيقة نحن نحتاج لأن نعيد النظر في محبتنا للنبي عليه الصلاة والسلام، هل نحن نحبه حقاً أم لا؟ ولينظر كل إنسان، فكل امرئ حجيج نفسه، وسيقف بين يدي ربه غداً وحيداً فريداً، فينظر كم من المخالفات التي في بيته؟ فهو رب البيت، ولا سلطان لأحد عليه، كم من المخالفات في بيته وهو مقصر في رفعها، وفي القيام بأمر الله تبارك وتعالى في أهله وفي أولاده؟ ينظر الإنسان في نفسه: هل يحب النبي عليه الصلاة والسلام ذاك الحب الذي يجب عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى أكون أحب إليه من ماله وأهله والناس أجمعين)، و (حتى أكون أحب إليك من نفسك)؟ يقول تقي الدين السبكي في رسالة له لطيفة اسمها: بيان قول الإمام المطلبي: إذا صح الحديث فهو مذهبي -الإمام المطلبي: هو الإمام الشافعي رحمه الله- يقول وقد سُئل: إذا ورد حديث وفتوى عالم، والحديث يضاد فتوى المذهب، وورد حديث نصّه يخالف فتوى المذهب، فبأي الفتويين نأخذ؟ قال: خذوا بالحديث، وليفرض أحدكم نفسه بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، وأمره بهذا الأمر أكان يسعه أن يتخلف؟ لا يسعه أن يتخلف، حينئذٍ نسأل: فما هو الفرق بين أمر النبي عليه الصلاة والسلام المباشر، وبين أن يصلك أمره، وقد اتفق العلماء على أن رد الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وبعد مماته إلى سنته، فلا فرق بين أن يقول لك النبي عليه الصلاة والسلام أمراً مباشراً، وبين أن يصلك أمره بعد ذلك على لسان ثقة ممن يؤتمن في نقله.
يجب علينا يا إخواننا أن ننظر في أنفسنا، وفي من نعول، ونتقي الله تبارك وتعالى فيهم، فإن الرجل لو تيسر حسابه يوم القيامة، يمكن أن يوقفه أهله على شفير النار لو هو قصر، ولم يقم بأمر الله تبارك وتعالى، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، إذاً: الحمل عليك ثقيل، ليس هيناً، فليس أنت فقط، بل أولادك مسئول عنهم، وكذلك امرأتك، وكذلك من يكون لك عليهم الولاية الواجبة.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يرزقنا وإياكم حبه تبارك وتعالى، وحب من يحبه، وحب كل أمر يقربنا إلى حبه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.