[وصية الراهب للغلام]
انظر إلى الملك كيف يقطع الأرحام! ولا يبقي وداً بين والد وولد، ولا بين رجل وأخيه.
قال الملك لجليسه بعد ذلك: هل لك ربٌ غيري؟ قال: الله ربي وربك ورب العالمين.
قال: فما زال يعذبهُ حتى دل على الغلام.
هناك كلمة قالها الراهب للغلام عندما قتل الدابة، وصار له صيت، قال له: أي بني! إنك اليوم صرت أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليّ.
استفدنا من هذه الوصية هذه ثلاثة أشياء: الشيء الأول: تواضع الأستاذ، يقول: أي بني! إنك اليوم صرت أفضل مني.
حسناً: فما هو فضل الغلام على الراهب؟! فضل الغلام أنه صغير السن، ومع ذلك قام بالدعوة إلى الله عز وجل، لكن الراهب ما استطاع أن يقوم بذلك، فهذا يدلنا على أن فضل العلم في نشره، وكلما نشرت العلم كلما يصير لك خصم؛ لأنه لا يستفاد من العطر إلا بريحه، لو أن إنساناً لديه زجاجة عطر ووضعها في جيبه لا يستفيد هو ولا غيره بها؛ لأنه لا يستفاد من العطر إلا إذا فاح، مثل العلم.
مرة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بينما هو يتفقد الزكوات دخل إلى حجرة العطور، فأول ما دخل حجرة العطور أمسك أنفه، فقالوا له: إنما هو ريح -هواء-.
فقال لهم: وهل ينتفع به إلا بريحه، وهذا عطر المسلمين، لله دره رضي الله عنه! الفائدة الثانية: قال: (وإنك ستبتلى).
فهذا يدلك على أن الذي يدعو إلى الله عز وجل لابد أن يبتلى بأي بلاء دق أو جل، ولذلك قال ورقة بن نوفل للنبي عليه الصلاة والسلام لما رجع من غار حراء ليتني فيها جذع إذ يخرجك قومك.
فقال: أومخرجي هم؟ قال: ما جاء رجلٌ بمثل ما جئت به إلا عودي.
سنة لا تتغير (ما جاء رجلٌ بمثل ما جئت به إلا عودي).
إذاً: العداء لدعوة الرسل جزءٌ لا يتجزأ منها: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:٢٥١].
فلا تطمع أن ينفك أعداء الله عنك.
الفائدة الثالثة: فإذا ابتليت فلا تدل علي.
وفي هذا دليل على أنه لا يجوز للعبد أن يلقي بنفسه إلى التهلكة، لكن إذا كان الأمر لا ينفك عن أذاه ولا مناص إلا من هذا البلاء ليبلغ الدعوة فعليه أن يفعل.
مثل المشقة: بعض الناس يفهمون المشقة والأجر والرابط بينهما خطأً، مثلاً: رجل معه مال وأراد أن يحج وله القدرة على ركوب الطائرة ولكنه قال: أركب السيارة؛ لأن المشقة فيها أكثر، فهل يؤجر على هذا؟ لا لماذا؟ لأن ديننا نفى المشقة، والله عز وجل قال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:٧٨].
متى تؤجر على المشقة؟ إذا كان العمل لا ينفك عن المشقة، لا حيلة لك، عندما لا تملك المال الكافي لركوب الطائرة فتذهب بالسيارة فتتعب في سفرك، هذه هي المشقة التي قصدها الرسول عليه الصلاة والسلام عندما قال لـ عائشة رضي الله عنها: (أجرك على قدر نصبك).
كذلك لا يجوز للمسلم أن يقصد البلاء قصداً، إنما يتحاشاه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو)، مع أن لقاء العدو هو الجهاد، والجهاد هو ذروة سنام الإسلام، ولو مات المرء في الجهاد كان شهيداً، برغم أن الجهاد يوفر لك كل هذه المزايا، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تتمنوا لقاء العدو)، لماذا؟ لأنك لا تدري إذا لقيت العدو أتثبت أم تفر؟ والفرار من الزحف إثمه كبير جداً، وقد يدرك المرء جراحة من الجراحات فيقتل نفسه كما فعل بعض الناس، قتل نفسه بسبب الألم الذي ما تحمله، فأنت لا تدري ما يفعل الله بك، فلا تتمنى البلاء، هذا هو معنى الكلام.
فهذا الراهب العالم يؤدب الغلام، قال: إن ابتليت فلا تدل عليَّ.
ليست من الشجاعة أن تقول: أنا في المكان الفلاني، وليس من العيب أن تهرب.
سفيان الثوري رحمه الله مات هارباً في بيت تلميذه عبد الرحمن بن مهدي وكان يحيى بن سعيد القطان حاضراً وكلاهما من شيوخ الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، فكان سفيان يحتضر ورأسه في حجر عبد الرحمن، ويحيى بن سعيد القطان عند رجليه، وقد بكى بكاءً شديداً قبل موته فقال له عبد الرحمن: ممّ تبكي؟ أتخاف من ذنوبك؟ فتناول الثوري رحمه الله حفنة من على الأرض، وقال: لذنوبي أهون عليَّ من هذه، إنما أخشى سوء الخاتمة.
وقال له يحيى بن سعيد القطان: لم تبكي؟ ألست تقدم على الذي كنت تعبده؟! لماذا تبكي وأنت قادم إلى الذي كنت تعبده، وأنت هارب من أجله وطفت الدنيا تجمع حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وتبلغ كلام الله عز وجل؟ هذا الذي نصرت له وصبرت له أنت قادم عليه، من حقك أن تفرح.
فلما قال له ذلك: سكن.
فلا يحل لإنسان أن يقصد البلاء قصداً، ولذلك قال له: إن ابتليت فلا تدل عليّ.