حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم يوماً بعد شهر كامل، فجلس على طرف سريره، وكانت أول مرة يجلس فيها، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وقال:(يا عائشة! إن كنت ألممت بذنب فاستغفري، فإن العبد إذا أذنب فاعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه).
فحز ذلك جداً في نفسها، وكانت تنتظر أن يبرئها لتاريخها معه، ولا يتوقف في شأنها، بل يقول هي بريئة، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتكلم عن هوى نفسه، وهوى نفسه أن تكون امرأته بريئة، بل ينتظر الوحي حتى ينزل، فلا يتقدم بين يدي ربه، ولذلك سكت ولم يتكلم، قالت عائشة:(فلما قال ذاك قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة).
فذهب هذا النهر الفياض على مدار ثلاثة أيام، لم تجد قطرة دمع واحدة في عينها.
ومن أصعب الأشياء: الانتظار، فإن الإنسان المحكوم عليه بالإعدام، وهو ينتظر الحكم، لا يأكل ولا يشرب، وجسمه ينحل؛ إذ أن أصعب شيء في حياة الإنسان انتظار نتيجة لا يدري ما هي! لكن لو عرف أنه ميت أو حي فإنه يستريح، وهكذا لو مات ابن رجل ودفنه بيده خير له من أن يضيع ويبحث عنه في المستشفيات وفي أقسام الشرطة، وفي بلاد الله، وهو لا يدري أحي ابنه أم ميت؟ بل إنه يقول: لو مات لكان خيراً لي، ولاسترحت؛ لأن الانتظار سيء للغاية.
فقد كانت عائشة رضي الله عنها تبكي باستمرار وهي لا تدري ما الذي يكون، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبدئها، بل قال لها تلك الكلمة التي زادت من ألمها وحزنها، حتى قالت:(قلص دمعي، حتى ما أحس منه قطرة، وقلت: إنني إذا قلت لكم: إنني بريئة -والله يعلم أني بريئة- لا تصدقونني، وإذا قلت لكم: إنني فعلت -والله يعلم أني بريئة- لتصدقنني بذلك، فوالله ما أجد لكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}[يوسف:١٨].
وجاء في بعض الروايات أنها قالت: (وتاه عني اسمه)، وأبو يوسف هو يعقوب عليه السلام، لكنها بحثت عن اسم يعقوب في ذهنها فلم تجده من الهم، والهم يضيع الملكات، ويضيع الذكاء والبديهة.