[حب ما يحب المحبوب وبغض ما يبغضه]
من علامات الحب أيضاً: أن تنفعل لمحبوبك حتى تأتمر من غير أمر وتنتهي من غير نهي، ولكن بشرط وهو: أن تلاحظ تصرف محبوبك فما كان يأتيه ويحبه فقد صار أمراً من غير أمر، وما كان يكرهه ويعافه ويجافيه فأنت كذلك تكرهه وتأباه ولو لم ينهك عن ذلك، هذا الذي قصدته، فإذا رأيت محبوبك يقبل على شيء ما، ولكنه لم يأمرك ولم يقل لك: افعل كذا، فمجرد إقباله على هذا الشيء تعتبره أمراً في حقك وإن لم يأمرك حبيبك، كما في الحديث الصحيح: أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الدباء ويتتبعه) الدباء هو: القرع، وهو غير الكوسة، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب الدباء، وكان يتتبع القطعة في الطبق ويأخذها.
قال أنس بن مالك: (رأيته صلى الله عليه وسلم يأكل الدباء فلا أزال أحبه) مع أنه لم يقل له: يا أنس كل الدباء، لكن رآه محباً لأكله فانفعل له، وهذا يشبه تصرف الأم عندما ترى ابنها يأكل القطعة ثم تأخذها وتمضغها له بفمها مع أن الأب لا يعمل هذا الشيء؛ لأن النفس تعافه.
ما الذي هون على الأم مثل هذا المضغ؟ حبها للولد، وذلك بسبب طول الملازمة، وأسباب أخرى كثيرة، منها: الحمل، والرضاع، ومنها ما فطر الله عز وجل الأم على محبة الولد فالأم تسهر طوال الليل وبالذات حال فطامها له، وقد يستمر ذلك ثلاثة أو أربعة أيام، مع أنها طوال النهار تهتم بأمور المنزل، فيأتي الليل وهي مرهقة جداً، ومع ذلك تصبر ولا تتضجر، والأب قد يأتي من العمل وهو متعب ومرهق، فعندما يدخل البيت ويسمع صراخ الطفل يغضب وقد لا يحتمل فيضرب الطفل من أجل أن يسكته.
هذا هو الفرق، فالأم تفعل ذلك لشدة محبتها للولد، وإذا مات الابن تكون فجيعة الأم بالولد أضعاف فجيعة الأب بسبب شدة الحب، فالإنسان المحب حياته كلها لمحبوبه، فيظل يفكر فيه، ويبحث عن الأشياء التي يحبها، ويقوم بها، ويتمنى لو أنه يتكلم معه الساعات الطويلة، وإذا أرسل رسالة فيظل يقرؤها طوال الليل والنهار، ويكون قد قرأها ستمائة مرة، ومع ذلك لا يزال يقرأ، وكل مرة يحس أنه أول مرة يقرأها؛ لأن كل مرة فيها جرعة شوق لم تكن في المرة الأولى، فجرعة الشوق هذه هي التي تأتي بطعم للكلام.
لماذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام لـ ابن مسعود كما في الصحيحين: (اقرأ عليَّ القرآن، قال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري) لأن القرآن كلما تعطيه عقلك، يعطيك جديداً، لا ترجع أبداً بغير فائدة.
سأذكر مثالاً، ولكن لن أتوسع فيه كثيراً وإنما سأذكر بعض ما يتعلق به، ومن أراد أن يتوسع فليبحث في كتب التفسير عن هذه النكتة اللطيفة، قال الله عز وجل: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء:٩٥] لماذا قال (مطمئنين)؟ مع أن السياق -في الظاهر- ينفع بدونها؛ لأنه ذكر في الآية التي قبلها أنهم اعترضوا فقالوا: {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء:٩٤] بشراً مثلنا؟! استنكار، وقالوا: نحن نريد رسولاً من نوع مختلف لا يكون مثلنا، لا يمشي في الأسواق ولا يأكل المطعومات وغيرها.
ولو أنهم أُرسل إليهم ملك لقالوا: هذا ليس من جنسنا ونحن نريد أن يُبعث لنا رسولٌ من جنسنا، ليس هذا هو معنى الآية، وإنما معنى الآية أنه: لو أن الأرض عليها ملائكة لن أنزل بشراً، بل سأنزل واحداً من جنسهم، فأنت كلما تعطي القرآن قلبك وعقلك أعطاك أشياء جديدة، وهكذا في خطاب المحبوب، كلما تقرأه مرة جديدة وتعطيه قلبك مرة بعد مرة يعطيك أشياء جديدة، وهذه هي علاقة التفاعل بين المحب والمحبوب، علاقة إخاء وود، لا يمكن أن يكون العطاء من جانب واحد، فيظل المحب يعطي والمحبوب يبخل عليه، لا يريد أن يعطيه شيئاً، والمحب قد تفتر محبته، فلكي تبقي من تحب لا تثقل عليه، فكما أنه يعطيك، فلابد أن تعطيه.
وينبغي أن يكون المحب ذكياً لأنه إذا كان محباً فعلاً يبقى هو ومحبوبه على طريقة واحدة، فلا يكون هناك تغاير، ولو نظرت عين المحب إلى المحبوب أو المحبوب إلى المحب عرف أن فيها كلاماً، لكن الغباء أكثر ما يضيع المحبة، فممكن لأي أحد أن يعبر عن طريقة حبه بلمسة، أو بكلمة، والمفروض أن يكون ثمة تجاوب بين المحب والمحبوب ولا يشترط أن يكون كل واحد نسخة من الآخر بل كلٌ يعبر بطريقته، لكن الشيء الملحوظ المشترك هذا التفاعل.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (أقرأ عليك وعليك أنزل؟!) يعني: أنت أولى أن تلتذ به وأولى أن تفهمه إذا قرأته فأنت أولى به مني إذ أنه نزل عليك، فقال: (إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأ من أول النساء حتى وصل إلى قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:٤١] قال: حسبك، قال: فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان) إذاً من علامات الحب: الانفعال.
فأنت كل حياتك لمحبوبك وهو محور حياتك، أفنيت عمرك فيه وفي ملاحظته؛ حتى إذا تبسم وضحك تعرف فمه كيف يبتسم وعيناه كيف تلمعان، كل شيء عندك محفوظ بسبب شدة عنايتك به، فـ أنس بن مالك رآه يتتبع الدباء فأحب الدباء، حتى صار أحسن أكل بالنسبة له، مع أنه لم يؤمر، لكن هذا تصرف المحب، وينتهي وإن لم ينهه، مثل الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما هاجر من مكة إلى المدينة ونزل في دار أبي أيوب الأنصاري، وكانت دار أبي أيوب الأنصاري تتألف من طابقين، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يسكن في الطابق الأرضي فقال له أبو أيوب: (اصعد إلى فوق يا رسول الله! فقال: السفل أرفق بنا يغشاني أصحابي، فصعد أبو أيوب إلى فوق فقال: بينما أنا بالليل إذ انتبهت وقلت: أأنا أمشي على سقيفة تحتها رسول الله؟) يعني: رجلاي فوق رأسه، وهذا الحديث رواه مسلم وغيره، وأنا أسوق القصة من الألفاظ المجتمعة، يعني: لا أذكر خصوص لفظ مسلم رحمه الله.
قال: فقلت: (أأنا أمشي على سقيفة تحتها رسول الله؟ قال: وانكسر لنا حب -الحب هو الزير- قال: فجففته بلحافي أنا وامرأتي، والله ما لنا غيره، فخشيت أن ينزل الماء على رأس النبي عليه الصلاة والسلام، اجتمع هو وامرأته في ركن، فلما أصبحا نزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: والله يا رسول الله! لا أعلو سقيفة أنت تحتها أبداً، اصعد إلى فوق، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم قال: فكنت أرسل إليه الطعام ولا آكل أنا وامرأتي إلا إذا رجع الطعام إلينا، فنتتبع مواضع يده وفمه فنأكل منها ونشرب، قال: فأرسلت إليه ذات يوم ثوماً -أو قال بصلاً- فلم يأكل منه ففزعت وصعدت إليه وقلت: يا رسول الله! أحرام هو؟ قال: لا.
ولكني أناجي من لا تناجي، وإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) يقصد جبريل عليه السلام، لما يأتي يناجيه بالوحي فيشم رائحة البصل فيتأذى.
فانظر إلى حقوق الصحبة، فإنه لا يريد أن يؤذي صاحبه الذي يأتيه بالوحي، قال: (ولكني أناجي من لا تناجي)، فقال أبو أيوب -ذاك المحب-: لا جرم يا رسول الله! أكره الذي تكره) لم يقل له: حرام، أو لم يقل له: لا تأكل، بل أجاب إجابة صريحة واضحة: (ولكني أناجي من لا تناجي)، فانتهى بغير نهي منه.
هي هذه علامة المحب، علامة المحب أن يراقب أحوال محبوبه فإذا رأى محبوبه يأتي الفعل مراراً وتكراراً فعله، مثل عبد الله بن عمر لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي ولا يركب، فكان عبد الله بن عمر كل سبت يخرج من بيته إلى مسجد قباء ماشياً.
بل وصل أمر هذا الصحابي الجليل إلى أبعد من ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما أخبروه أن النساء يصلين معه ويحضرن المسجد، فكان هناك بابان للمسجد، فقال عليه الصلاة والسلام: (لو جعلنا هذا الباب للنساء) قال سالم أو نافع: فما دخل منه عبد الله بن عمر إلى أن مات، والنبي صلى الله عليه وسلم ما قال: لا تدخلوا من الباب، إنما قال: (لو جعلنا هذا الباب للنساء) فما دخل منه عبد الله إلى أن مات عبد الله، فهل مثل عبد الله يمكن أن يخالف أي مخالفة دقت أو جلت؟!! لا يمكن ذلك أبداً.
وكان عبد الله بن عمر يتتبع المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي فيها، وكان أبوه على خلاف مذهبه، فـ عبد الله بن عمر كان رائده الحب، وعمر بن الخطاب كان رائده المصلحة وسد ذريعة الشرك، كان عمر بن الخطاب مرة يمشي فرأى رجالاً يتدافعون تحت شجرة فقال: ما بال هؤلاء يتدافعون؟ قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى تحتها، فنهاهم عن ذلك وفرقهم وقال: صلوا أينما كنتم، فقد جعل الله الأرض مسجداً وطهوراً، إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم تتبعهم لآثار أنبيائهم.
هذا هو رأي عمر، ولو كان لوحده لساغ له أن يفعل فعلهم، لكن بما أنه في باب الأسوة لا يسوغ له إلا أن يفعل ما يصلح الرعية حتى ولو كان بخلاف مراده، مثل العلماء، فبعض العلماء يفتون بأشياء فإذا خلوا بأنفسهم خالفوا بعض ما يفتون به من باب الورع.
مثل ما يعزى لـ أبي حنيفة رحمه الله عندما أخبره رجل أن شاته قد سرقت، فذهب إلى قصاب وقال له: كم سنة تعيش الشاة؟ فقال له: عشر سنين.
فحرم على نفسه لحوم الشياة عشر سنين؛ لأنه ربما يكون السارق باعها لجزار فيشتري منه فيكون بذلك قد أكل حراماً.
ولو جاءه رجل فسأله: هل يجوز أن أشتري لحماً وأنا لا أعلم هل هو ذلك المسروق أم لا؟ فسيكون جوابه: نعم.