لقد كان الرعيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلفون، لكن القرن الأول الخلاف فيهم قليل، وأدب الخلاف فيهم رفيع، بخلاف القرون التي جاءت بعد ذلك، فالخلاف فيها شديد والأدب فيها يقل، فإذا نظرت إلى الصحابة وهم يختلفون مع بعضهم، كخلاف أبي هريرة مع ابن عباس في الوضوء مما مسه النار، كما في سنن الترمذي أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:(توضئوا مما مست النار)، -وكان هذا الحكم في أول الإسلام ثم نسخ فكان الرجل إذا أكل طعاماً مطهياً يلزمه أن يتوضأ، فكان من مبطلات الوضوء أكل أي شيء مسته النار سواء أكان شراباً ساخناً أو أكلاً- فـ أبو هريرة رضي الله عنه لما قال هذا الحديث اعترض عليه ابن عباس، وقال: يا أبا هريرة! أتوضأ من طعامٍ أجده في كتاب الله حلالاً؟ يا أبا هريرة! أفلا نتوضأ من الحميم؟ يعني: هل يلزمني إذا توضأت بماء ساخن أن أتوضأ بماء بارد مرة أخرى؟ فـ ابن عباس ليس معه حديث، وإنما هو جدل عقلي -اجتهاد- أبو هريرة معه حديث يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (توضئوا مما مست النار) فلم يأت ابن عباس بحديث فيه نسخ الوضوء مما مست النار، لكنه جادل أبا هريرة حسب اجتهاده، فقبض أبو هريرة رضي الله عنه على حصا ثم قال لـ ابن عباس:(أشهد عدد هذا الحصا أنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: توضئوا مما مست النار، يا ابن أخي! إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلا تضرب له الأمثال).
فما علمنا في خبر من الأخبار أن أبا هريرة اجتنب أو هجر ابن عباس أو أن ابن عباس اجتنب أبا هريرة؛ بل كانوا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(وكونوا عباد الله إخواناً)، وكما قال الله عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات:١٠]، يختلفون مع بعضهم، لكنهم كانوا يعلمون الخلاف السائغ المقبول من الخلاف المردود غير المعتبر.
فعندما ترى إلى هذه الصور المشرقة في حياة الصحابة، وتقلد هؤلاء الأكابر الفضلاء، يزول كثير من العنف والجفاء الذي نراه في علاقات الناس مع بعضهم البعض.