ثم ذكر الله مثلاً آخر:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}[الحج:٧٣] وهذا المثل كله استهزاء بالذين يدعون من دون الله، فالذباب هو: هذا الذباب الذي نعرفه وإنما سمي ذباباً لأنه كلما ذُبَّ آب، فقيل ذباب؛ أي: كلما تذبه يرجع إليك، هذا الذباب الذي أنت تعرفه وتستنكف منه، لو سقط في طعامك لأرقت الطعام، فإذا وقف هذا الذباب على شفير إناء وأخذ رشفة من هذا الإناء فلن تستطيع أن تستنقذ منه شيئاً، مع ضعفه، فالذين تدعون من دون الله لا يملكون شيئاً من القوة كهذا الذباب {ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا}[الحج:٧٣] وهذه الآية هي التي كفر بها بعض الكتبة حين قالوا: إن ميلاد الخلية المستنسخة أعظم من ميلاد المسيح، فيقولون: إن الإنسان استطاع أن يخلق الخلية، وهذا كذب، إنما يأخذون الخلية التي خلقها الله ويصورون عليها نسخاً، لكن أصل الخلق أن توجد الشيء من العدم من دون مثال سابق، وهذا مستحيل! بدلالة هذه الآية:{لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}[الحج:٧٣].
وهذا المثل الأخير أشد وأنكى، وكل هذه الأمثلة في باب التوحيد؛ ليبين رب العالمين قبح الشرك، وأن الإنسان العاقل إنما يلجأ إلى من يدفع الضر عنه {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ}[الزمر:٢٩] هذا الطرف الأول من المثل {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ}[الزمر:٢٩] وهذا الطرف الثاني {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[الزمر:٢٩] فإن أكفر إنسان على وجه الأرض هو هذا الإنسان، رجل عبد خادم له عشرة من السادة وهم متشاكسون، وكل سيد يريد أن يمضي كلامه على الآخر؛ لتكون له الغلبة، فيقول الأول للعبد: اذهب يميناً، وتجد الثاني المعاند المشاكس يقول له: يا غلام اذهب يساراً، ويقول الثالث: اذهب جنوباً والرابع يقول: اذهب شمالاً وهو لا يستطيع أن ينفذ قول واحد منهم، فإذا لم ينفذ قول الآمر ضربه وجره واستخدمه إلى ما يريد، ولكنه لا يستطيع؛ لأن الآخر يجره إلى الجهة المعاكسة، ثم لأنه لا يستطيع أن ينفذ أمر واحد منهم فليس له جميل عند أحد، فإذا طلب شيئاً من أحدهم يقول له: وهل صنعت لي شيئاً؟! أمرتك ولم تفعل! فيول له: إن سيدي فلان أمرني بضد أمرك، وليس لي شأن! هل يستوي هذا العبد المعذب مع رجل آخر له سيد واحد إذا أمره بأمر ابتدر أمره، فإن فعل المأمور به حفظ له الجميل؟! فهل يستوي هذا مع ذاك؟! {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا}[الزمر:٢٩]؟! الحمد لله لأنه أعمى هؤلاء الضلال عن موضع الحجة مع وضوح المثل.
إن الأمثال تضرب في القرآن لتبيين الفكرة، وتجد المثل في غاية الوضوح، فكذلك ضرب يحيى عليه السلام في باب التوحيد مثلاً، لا أظن أحداً رزقه الله عز وجل شيئاً من العقل لا يميزه، (أمركم أن لا تشركوا به شيئاً، وإن مثل ذلك -مثل من يشرك بالله عز وجل- كمثل رجل) واجعل نفسك في مقام هذا الرجل: جاءك عامل فقلت له: يا غلام هذا محلي وهذه الأسعار بع وأتني بمحصول المبيعات آخر النهار، فكان الغلام يخرج بحصيلة اليوم ويذهب إلى غيرك ويعطيه الحصيلة، أفليس من الممكن أن يبقى معك يوماً واحداً؟!! فإذا كنت تأنف أن يكون عبدك يأخذ البيع ويعطيه لغيرك، فصرف العبادة لغير الله وهو الذي يرزقك أشد وأكبر، ولذلك تقدم في سورة النحل:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا}[النحل:٧٣]؛ لأن قضية الرزق هي التي جعلت كثيراً من الناس يترك أمر الله، فكثير من الذين خالفوا الأوامر خالفوها بحجة الرزق والبحث عن الرزق وأكل الأولاد، فلذلك ضرب المثل ونص على الرزق نصاً.
فإذا كان الله عز وجل هو المتفرد بذلك فكيف خلطت ماله بغيره؟!! وأنت تستنكف أن يكون هذا من عبدك، وكلاكما عبد (وإن الله خلقكم ورزقكم فلا تشركوا به شيئاً).