[القسم الأول: نفاق الاعتقاد]
فالذي ينافق نفاق اعتقاد كافر، بل هو أشر من الكافر، وهو الذي قال الله عز وجل فيه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:١٤٥] أي: دون الكفرة بدركة أو بدركتين إلى ما شاء الله عز وجل، والذي ينافق نفاق اعتقاد بخلاف الذي ينافق نفاق العمل، فالذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا ينافقون نفاق اعتقاد.
ما سبب هذه الفئة الجديدة؟ معلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام أول ما دخل المدينة وادع كل من كان حولها ومن كان فيها -أي: سالمهم- لأنه لا قبل له بهم، وادعهم حتى موقعة بدر، فبدأ النفاق يظهر؛ لأن القوة الإسلامية بدأت تظهر.
فما ظهر النفاق إلا لقوة الدولة الإسلامية بعد موقعة بدر؛ لأن موقعة بدر فصلت الأمور فصلاً تاماً، ورفعت المسلمين رفعاً عظيماً ما كانوا يتوقعونه، فبدأ المنافقون -وعلى رأسهم عبد الله بن أبي ابن سلول - يوادعون وينافقون ويظهرون خلاف ما يبطنون، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يعرف ذلك منهم، لكنه أعلم الناس أن الحكم إنما يكون بالظاهر، وحتى لا يفتات الناس على الله عز وجل، فيحكموا على العباد بما يظنونه في قلوبهم.
والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعلم المنافقين، لاسيما بعد غزوة تبوك التي تخلف فيها أكثر من ثمانين من المنافقين وصاروا يعتذرون بشتى الاعتذارات كي لا يخرجوا في هذه الغزوة، بسبب شدة الحر، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك، جاءه المعذرون يعتذرون إليه؛ برغم أنه كان يعلم نفاقهم وكذبهم، إلا أنه قبل منهم علانيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل.
ومما يدلنا على معرفته بالمنافقين: أنه لما جاء كعب بن مالك وقال: (يا رسول الله! والله ما كان لي من عذر، وما جمعت قط بين راحلتين كما جمعتهما في هذه الغزوة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: أما هذا فصدق) ما معنى هذا الكلام؟ معناه: أن الثمانين الذين اعتذروا قبل ذلك كذبوا عليه، ومع ذلك قبل علانيتهم واستغفر لهم: (وأما هذا فصدق، فقم حتى يحكم الله فيك)، فكان يعرفهم؛ لكنه لا يستطيع أن يقول لرجل جاء وقال: أنا آمنت، أن يقول له: لا أنت كاذب، أنت تضمر خلاف ما تقول، فإن هذا يجرئ العباد بعده على أن يحكموا على ما في قلوب العباد، وهذا خطير جداً، ولو أن هذا الباب فتح، لفتح به شر مستطير لا يعلمه إلا الله.
ولذلك لا يجوز للقاضي أو للحاكم أن يحكم بخلاف ما يسمع من لسان المتهم إلا إن كان عنده قرينة قوية تدل على كذبه، أما أن يحكم على ما في قلبه أو يقول: لا.
أنت تضمر خلاف ما تقول بغير حجة ناهضة؛ فهذا لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، وجميع أنبياء الله عز وجل إنما يحكمون بالظاهر.
ألم تر إلى أسامة بن زيد لما كان في غزوة من الغزوات -كما روى البخاري في صحيحه - إذا به يرى رجلاً من المشركين أمامه، فعلاه بسيفه؛ فقال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله، فما تركه أسامة حتى قتله، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له ذلك؛ قال عليه الصلاة والسلام مستنكراً عليه: (أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟! قال: يا رسول الله! قالها تقية، قالها خوفاً من القتل، قال: هلا شققت عن قلبه! أقتلته بعد أن قالها؟! قال أسامة: فما زال يكررها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا حين ذاك).
في موقف ترجح لـ أسامة أن هذا الرجل كاذب، وهو في موقف قتال ضد المسلمين، فلما علاه بالسيف قال: لا إله إلا الله، فترجح لدى أسامة أن هذا الرجل كاذب، وأنه يريد أن ينجو من القتل بهذه الكلمة، فلم يعذره، وقد يكون أسامة معذوراً؛ لأن الظروف والملابسات المحيطة بهذا الرجل أدته إلى هذا الفعل، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام شدد عليه جداً، وهو يقول له: (أقتلته بعد أن قالها؟!) وهذا يدلنا على أن الأصل هو الحكم بالظاهر، وأننا نقبل علانية الرجل وإن كان كاذباً في الباطن، حتى نعلم علماً يقينياً أنه كاذب، فإن دماء بني آدم معصومة لا تهدر إلا بيقين.
ولذلك لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ادرأوا الحدود بالشبهات) كان يرشد إلى أنه لو اشتبهت بأن هذا الرجل لابس الحد أو لم يلابسه، فاعتبر أنه لم يلابس الحد؛ فإذا وقعت للقاضي شبهة، فلا يحل دم المسلم بالشبهة، وإنما يهدر دمه بيقين، فلذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يعلم أن المنافقين كاذبون، ومع ذلك ما أحل دماءهم؛ حتى لا يتجرأ من يأتي بعده، مع كونه عليه الصلاة والسلام المكلم من السماء.
فهذا الصنف الذي ظهر في المدينة المنورة ظهر بسبب قوة الدولة وشوكتها، ولكم عانى المسلمون الأمرين من جراء هذا الصنف أما الصنف الآخر الذي ينافق نفاق عمل فهو كثير جداً، وهو الذي ابتلي المسلمون به، لاسيما في زماننا هذا ومع ذلك -والله أعلم- قد يكون هناك الذين ينافقون نفاق الكفر، ولكن ما أمرنا أن نشق عن بطن أحد.