[بيان أن الإسلام دين يسر]
إن الحمد لله نحمده تعالى، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
روى الإمام أحمد في مسنده والبخاري في صحيحه والسياق للمسند من حديث حصين بن عبد الرحمن ومغيرة بن مقسم الضبي عن مجاهد بن جبر عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: زوجني أبي امرأة من قريش ذات حسب، فلما دخلت علي جعلت لا أنحاش لها مما أجد بي من القوة في العبادة، فجاء عمرو بن العاص إلى كنته فسألها، كيف حال عبد الله معك؟ فقالت: عبد الله نعم العبد لربه من رجل لم يفتش لنا كنفاً ولم يعرف لنا فراشا، قال: فأقبل علي أبي فعزمني وعضني بلسانه، وقال: أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب فعضلتها، ثم شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: (أتصوم النهار؟ قلت: نعم.
قال: أتقوم الليل؟ قلت: نعم.
قال: ولكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
قال حصين في حديثه: قال صلى الله عليه وسلم: (إن لكل عمل شرة وفترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد هدي، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك).
ثم قال له: (كيف تقرأ القرآن؟ قال: أقرأه كل يوم، قال: فاقرأ القرآن في شهر، قال: إني أجد بي من القوة أكثر من ذلك، قال: فاقرأ القرآن في عشرة أيام، قال: إني أجد بي قوة، قال: فاقرأ القرآن في ثلاث، ثم قال له: كيف تصوم، قال: أصوم كل يوم، قال: فصم ثلاثة أيام في الشهر، قال: إني أقدر، قال فلم يزل يرفعني حتى قال: صم يوماً وأفطر يوماً، هذا خير الصيام صيام أخي داود).
قال مجاهد: فكان عبد الله بن عمرو لما كبر يصوم الأيام متتالية، ثم يفطر بعدد تلك الأيام، وكان يقرأ القرآن لا يوفي -يعني في اليوم الواحد- لكنه كان يقرأ ويدع غير أنه كان يوفي في كل سبعة أيام، كان يقرأ القرآن مرة، ويقول: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير أنه كره أن يدع شيئاً مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يفعله.
وجاء في صحيح البخاري قول النبي عليه الصلاة والسلام لـ عبد الله بن عمرو بن العاص: (لعله أن تطول بك حياة) فندم عبد الله بن عمرو بن العاص أنه شدد على نفسه في أيام إقباله على العبادة.
أيها الإخوة الكرام! إن أفضل ما يميز ديننا أنه دين سهل يسير، وقد نفى الله عز وجل الحرج في الدين، فقال تبارك وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:٧٨].
يقول علماء الأصول: النكرة في سياق النفي تفيد العموم، وهكذا في هذه الآية، فلفظة (حرج) نكرة، وجاءت في سياق منفي: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:٧٨]، فمعنى هذا أنه لا يوجد أدنى حرج يذكر في دين الله تبارك وتعالى، قوله (من) هي التبعيضية، كما لو قلت: أكلت من الرغيف، يعني: أكلت بعض الرغيف، أو شربت من الماء، يعني: شربت بعض الماء، فـ (من) هنا تبعيضية، فهذا الحرج المنفي نفياً كاملاً، مبعّض أيضاً، وهذا كله يؤكد أنه لا حرج ألبتة في دين الله تبارك وتعالى.
ومما يبين أن ديننا يسر: أن الله عز وجل شرع الرخص، والرخصة لا تكون إلا لمزيد من التيسير، والرخصة معناها إسقاط جزء من العزيمة، وهذا كله يبين أن دين الله تبارك وتعالى يسر لكن الرخص لا تناط إلا بالطاعات، يعني لا يجوز أن يستمتع عاص بالرخصة، فإن الرخصة لا يستمتع بها إلا طائع، وإلا فالأصل أن الرجل المنحرف يشدد عليه، لا يرخص له، فلو افترضنا جدلاً أن رجلاً سافر سفر معصية، فلا يحل لهذا الرجل في سفر المعصية أن يقصر الصلاة، ولا يحل له أن يفطر في رمضان.
وبهذا الأصل احتج شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على أن الذاهب إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقد شد الرحل إليه، لا يجوز له أن يقصر الصلاة، قال: لأن شد الرحل إلى القبر معصية، إنما المسنون هو أن يشد الرحل إلى مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد).
كذلك المرأة التي تحمل من سفاح، لا يحل لها أن تجهض حملها؛ لأنها عاصية، والعاصي لا يستمتع بالرخصة.
لكن إذا حملت المرأة من زوجها، وقيل: إن صحتها لا تتحمل، وأن هناك خطورة حقيقية على حياة المرأة، فيكتب الطبيب هذا التقرير ولا يفتي، لأنه لا يجوز للطبيب أن يفتي المرأة بالإجهاض، فالمفتي بناءً على ما يقرأ يقول: نعم، يحل شرعاً للمرأة أن تجهض، فالمرأة التي تحمل من زوجها وعرض لها مثل هذا العارض يجوز لها أن تجهض الحمل، هذه رخصة لها.
فإذا أضفت إلى ذلك أن فضيحة المرأة إذا حملت من سفاح أمر أراده الله ورسوله، تأكد أنه لا يجوز لها أن تجهض الحمل، نحن نعلم أن الأصل الستر على المسلم العاصي، فإذا زنى رجل بامرأة وكانا غير محصنين، فحكمهما كما يقول تبارك وتعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:٢]، فهذا ضد الستر، لماذا؟ حتى تتم العظة وتتم العبرة، فإذا رأى الرجل فضيحة نظيره الذي ارتكس في هذه الفاحشة، وأن الناس يشهدون عذابه، فإنه يحذر أن يقع في مثل هذه المعصية.
أما إذا كان الزاني محصناً فالحد الذي أجمع أهل العلم عليه: الرجم، وقد كان الرجم ثابتاً في كتاب الله عز وجل، ثم نسخت الآية ورفع لفظها، وهذا اللفظ رواه الحاكم في مستدركه، وكان لفظ الآية: (إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتة بما قضيا من اللذة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) ثم رفع لفظ هذه الآية وثبت الحكم بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، فالرجل إذا زنى وهو محصن -يعني: متزوج- أو المرأة إذا زنت وهي محصنة -أي: متزوجة- فالحكم هو الرجم، فيحفر لكل واحد حفرة في الأرض ويدفن نصفه الأسفل، ثم يرجم بالحجارة في رأسه إلى أن يموت، قال تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:٢].
فهذه الفضيحة جزء أرادها الله عز وجل، وليس فيها ستر على الإطلاق إذا تحقق أمر الزنا، ويتحقق إما بالاعتراف، وإما بظهور الحمل، وإما بأربعة شهداء، فهذه المرأة لا يحل لها أن تجهض حملها؛ لأنه لو جاز لها أن تجهضه فإنها ستمارس الفاحشة أكثر من مرة، لكن إذا علمت أنه لا سبيل إلى الإجهاض على الإطلاق، وأن المسألة فيها فضيحة وفيها قتل إلى آخره، فإنها ستمتنع من مقارفة هذا الجرم، فالرخص في دين الله تبارك وتعالى إنما شرعت للطائع ولم تشرع للعاصي، فوجود الرخص في ديننا أمر يدل على التيسير.