للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نموذج إيماني بدري]

فانظر إلى هذه الطائفة تتلى عليهم آيات الله، فيزدادون بها إيماناً، وقد ظهر هذا الإيمان في جزئيات من غزوة بدر حفظتها لنا كتب السنة.

في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أول ما بدأت الحرب: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض.

فقال: عمير بن الحمام: يا رسول الله! عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم.

فقال عمير: بخ بخ -يعني: أنعم وأكرم-! فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: ما يحملك على قولك بخ بخ! قال: لا -والله- يا رسول الله! إلا رجاء أن أكون من أهلها.

قال: فإنك من أهلها.

فقام عمير وأخرج من قرنه تمرات، وجعل يأكلها، فلما تذكر هذا الوعد وأنه من أهلها، وهي جنة عرضها السماوات والأرض قال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات) يعني: الذي يحجزني عن دخول الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض هي أن أموت (فألقى التمرات من يده وقاتل حتى قتل، فكان أول قتيل في غزوة بدر).

يقول: بخ بخ، هذا الذي يتمنى أن يموت، ترى هل تمنى أن يرجع إلى أهله، أو إلى داره أو إلى ماله، أو إلى جيرانه وعشيرته؟ لا، خرج لا يلوي على شيء إلا أن يقتل: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:٥٢]: النصر أو الشهادة.

المؤمن عزيز، يظل في الدنيا غالباً لا مغلوباً، وهو عندما يتحرك لقتال أعداء الله يقول في نفسه: إما أن أعيش سيداً منصوراً تدين لي الآفاق، وإما أن أموت شهيداً سليماً ولا أبقى على الأرض ذليلاً.

المسلمون في الأندلس مروا بواقع أليم، فكل واحد من الأمراء أخذ مقاطعة وقال: هذه دولتي، وجعل يحارب بعضهم بعضاً للاستيلاء على أملاك الغير، الأسبان كانوا في الشمال والمسلمون كانوا في الصعيد -وجنوب أي بلد هو صعيد البلد- كان المسلمون في جنوب الأندلس والإسلام في شمال الأندلس، تصور أن طليطلة -إحدى مدن المسلمين في أسبانيا- ظل الأسبان يحاصرونها سبع سنوات كاملة، ومع ذلك لم ينجدها أحد.

وطلنكية ظل الأسبان يحاصرونها عشرين شهراً حتى أكلوا الجيف وأكلوا الفئران، بل وكانوا يأكلون الذي يموت منهم، إذا مات رجل أو امرأة كانوا يأكلون هذا الرجل أو المرأة، وبعد عشرين شهراً سقطت أيضاً؛ لأنهم انغمسوا في الشهوات والنساء والقيان، بل طاوعوا ملوك الأسبان، وأغروا ملوك الأسبان بأن يدخلوا إلى البلد؛ فلما رأى الله عز وجل ذلك منهم ضربهم بهذه الهزيمة، وليس على الله بعزيز أن يذل أمثال هؤلاء.

يا أيها الإخوة: إن عوامل النصر في غاية الوضوح، إنه لا نصر لنا على الإطلاق على اليهود إلا إذا حققنا هذه الصفات الخمس التي كانت في أهل بدر، مع قلتهم ومع ذلهم ومع فقرهم انتصروا، وكما قلت في مطلع الكلام: الأرض لم تكن تساعد هؤلاء على الكر والفر، لكن الله عز وجل يعطي من أسباب الفوز للطائفة المؤمنة ما يجل عن الحصر وما لا يخطر على البال.

قال تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:٢]، في مقابل هذا بطر وعناد: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:٣١] فهذا الإيمان الذي كان عند الطائفة المؤمنة ظهرت مفرداته في القتال يوم بدر.