[قتل أبي رافع]
يحكي لنا البراء بن عازب قصة تاجر الحجاز أبي رافع، وكان أبو رافع ممن يعين بماله على المسلمين وعلى النبي عليه الصلاة والسلام، وكان أشهر تاجر في مكة: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:٣٦].
فقام عبد الله بن عتيك، وانتدبه النبي صلى الله عليه وسلم مع سرية وقال: اذهبوا إليه، فذهبوا حتى وصلوا إلى قصره المنيف، وهو تاجر كبير، وعنده ضيوف وسمار يسمرون معه إلى آخر الليل، فقال عبد الله لأصحابه: اجلسوا وأنا سأذهب وأتلطف في الدخول، وإذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه.
وقد يكون هذا الرسم الذي رسموه، اليهود بداية حرب بيننا وبينهم أرادها الله، فتهيج الدنيا وتموج في بعضها وينصر الله عز وجل من يشاء.
فحتى يقتل هذا الكافر - أبو رافع - يخرج حمار من القصر، فيرسل الحرس ليبحثوا عن هذا الحمار، فعندما رأى عبد الله بن عتيك الحرس خارجين من القصر جلس وكأنه يتبول، وتقنع حتى لا يرى ولا يعرف.
قال: فدخلت، ولم يفتشني أحد، فدخلت واختبأت، فبعدما دخلوا كلهم وأغلقوا القصر من الداخل، قال: وضع الحارس الأغاليق في ودٍ في كوة -والكوة: هي الطاقة التي في الجدار، والود: هو الوتد الذي في الطاقة، فعلق السلسلة التي فيها المفاتيح على الوتد الذي في الطاقة- فنظرت إلى المفاتيح وقلت: الحمد لله.
فلما دخل الحارس لينام كمنت -لأن هناك ضيوفاً ولا يستطيع أن يدخل عليهم- حتى خرج السمار آخر الليل، فدخلتُ، فكلما دخلت أغلقت عليّ الباب من الداخل -ولم يفته أن يغلق الباب على الحارس- قال: فدخلت فرأيت القصر كله مظلم، فناديت عليه: يا أبا رافع! فقال: من؟ فاتجهت نحو الصوت، قال: فعاجلته بضربةٍ وأنا دهش -ودهش: يعني مذهول لم يصدق أنه دخل القصر ووجد أبا رافع - غير مصدق لنفسه، والمذهول إذا ضرب يضرب ويده ترتعش فلا يحسن الضرب.
قال: فقال أبو رافع: من؟ فاتجه إليه وضربه ضربة وهو دهش، فلم تغن عنه شيئاً، قال: فصرخ، واستغاث، قال: فغيرت صوتي وجئت كأنني أغيثه، فقال له: أغثني! الويل لأمك! ضربني فلان، أو ضربني رجل، قال: فعاجلته بضربةٍ أخرى، فلم تغن عنه شيئاً، قال: فصرخ، فغيرت صوتي وجئته كأنني أغيثه، فقال: الويل لأمك! ضربني ضارب، قال: فأمسكت بذباب السيف فتحاملت به عليه، فسمعت صوت العظم.
فأول ما سمع صوت قعقعة العظم علم أنه قتله، ولكنه لم يهرب، بل قال: لن أخرج من هنا حتى أعلم أنه هلك -أي: عندما يعلن الناعي من على السور ويقول: مات تاجر الحجاز-.
انظر إلى الفداء!! يريد أن يطمئن أن المهمة قد تمت على أتم وجه، فإنه: قد يمكن أن تخفق العلمية ويصاب بغيبوبة في المخ فقط، وقد قرأت لبعض المتخصصين في طب الأطفال يقول: إن الولد لو حدث له موت مخي فإنه يسترد مخه بعد أربعة شهور، ويبقى مخه (مائة في المائة) وتقول المجامع العلمية الطبية: إن موت المخ لا يكون إلا بعد خمس سنين.
أي: يستطيعون بعدها أن يقولوا: إن المخ مات فعلاً.
فلما سمع عبد الله بن عتيك القعقة أراد أن يتأكد من مقتله، فما كان ليخرج حتى يعلم أنه قد مات، وبمنتهى الفدائية ظل في القصر حتى أذن الديك، فلما أذّن الديك قام الناعي فوقف على السور وقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز! قال: فلما سمعت ذلك جعلت أفتح الأبواب، فلما وصلت إحدى السلالم وكانت الليلة مقمرة ظننت أني وصلت إلى آخر درجة، فوقعت على الأرض فكسرت رجلي.
فخلع عمامته رضي الله عنه وتسور السور إلى أصحابه وقال: لقد قتل الله أبا رافع، الحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فحملوه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فأول ما وصل قال له صلى الله عليه وسلم: (ابسط قدمك فبسطها فمد يده عليها فكانت أصح رجليه).