[حالات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أربع درجات: أن تنهى عن منكر فيحصل ضده فهذا مشروع.
أن تنهى عن منكر فيقل فهذا مشروع، وإن لم يزل بالكلية.
أن تنهى عن منكر فيحصل لك القدر الذي تنهى عنه فهذا محل اجتهاد.
أن تنهى عن المنكر فيحدث أشد منه فهذا محرم).
وهذه الدرجات مهمة جداً في الأمر بالمعروف وإنكار المنكر.
فالدرجة الأولى مشروعة، وقد تكون واجبة، وهي إذا أنكرت المنكر فحصل ضده، أي: المعروف، كقصة البئر التي حكاها أبو شامة رحمه الله قال: كان بعض العلماء من السابقين يمر ببعض الطريق، فإذا أناس كثيرون حول بئر، ومعهم أطفالهم، فسأل: ما بال هؤلاء الناس؟! وما بال البئر؟! فقالوا: إن في هذا البئر بركة، والناس كلما مرض أحدهم جاء إلى ماء هذا البئر فانغمس فيه، فسكت العالم، ثم جاء من الليل ومعه أصحابه وردموه، ولما انتهوا من ردمه أُذن للفجر، فأذن على هذا البئر وأقام الصلاة، وقال: اللهم إني ردمتها لك، فلا ترفع لها رأساً، فلم يرتفع لها رأس.
فقد كان هؤلاء الناس يشركون بالبئر؛ فهذا منكر تستطيع أن تغيره بضده، فهذا مشروع.
وهناك نوع من المنكر لا تستطيع أن تزيله بالكلية، لكنك إن حاولت في إنكاره خف المنكر، وهذا أيضاً مشروع.
وهناك نوع من المنكر إذا أنكرته حصل من المفسدة ما يساوي هذا المنكر الذي أنكرته، فهذا محل اجتهاد، فالعالم يوازن بين المصالح والمفاسد في هذا الأمر، فإذا استوى طرفاه احتجنا إلى مرجح.
فهل ننكره أم لا ننكره؟ هو محل اجتهاد، فكل واقعة من هذا الضرب تحتاج إلى فتوى مستقلة؛ حتى نعرف كل الملابسات والظروف التي تحيط بهذا المنكر.
والنوع الرابع الذي أفتى ابن القيم رحمه الله بتحريمه: هو النوع الذي لا يستوي طرفاه، وهو الذي إذا أنكر المنكر وقع في منكر أشد منه، لأن الشريعة أتت بدفع المضار والمفاسد، والشرع يقول: إن كان هناك أمران لا بد أن تختار أحدهما، وكانا مضرين، فاختر أقلهما ضرراً؛ فإن اختيار أخف الضررين عند نزول البلاء هو الأصل في الشريعة.
وحكى ابن القيم رحمه الله حكاية ابن تيمية المشهورة في هذا الأمر فقال: سمعت شيخ الإسلام -قدس الله روحه ونور ضريحه- يقول: (بينما أمشي أنا وبعض أصحابي في زمان التتار، إذ وجدناهم يشربون الخمر -سكروا- فأنكر بعض أصحابي عليهم، فقلت له: إن إنكارك منكر؛ لأن الله تبارك وتعالى نهى عن الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء الخمر تصدهم عن سبي الذراري وقتل النفوس).
فانظر إليه ما أفقهه رحمه الله تعالى! ولم يغب عن باله أبداً أن الخمر حرام، لكنه نظر بعقل الرجل الفاقه لدينه، العالم بنصوصه، العليم بمقاصده.
شرب رجل خمراً فسكر، هذا الرجل إن كان الخمر يصده عن ذكر الله وعن الصلاة، فهذا هو المنكر في الأمر، ويجب أن ينكر عليه، فإن كان في مثل حال الذين مر عليهم شيخ الإسلام: رجل عدو، إن أفاق قتل وسبى النساء وقتل الذرية؛ فشرب الخمر أهون؛ لأنه لا يتعداه إلى غيره، إنما القتل يتعدى إلى الغير، إلى إزهاق النفس.
فهذه الدرجات الأربع يجب على المسلم أن يضعها نصب عينيه.