[الكرامة بالتقوى لا بمتع الدنيا]
الحمد لله الذي ابتلى ورفع بالبلاء وصبَّر على البلاء: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:١٢٧]، لا تتصور أنك أنت الذي تصبر، فإنه إذا لم يصبرك الله فلن تصبر، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.
لذلك لا يستدل بالبلاء على أنه إهانة إلا أهل الكفر والجهل فقط، فالجاهل كلما يجد إنساناً مبتلى يظن هذا الإنسان أنه هين على الله، ويظن أنه إنسان سيء، يقول: قد أهان الله كرامته، هذا رجل ليس له كرامة.
وهم لا يعلمون أن الله بذلك يرفعه، وهذا من جنس احتجاج المشركين، الذين يرون أن الابتلاء علامة غضب، وأن العافية من البلاء علامة رضا الله، والله عز وجل نفى هذا الكلام.
وقالوا -أي المشركين-: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:٣٥]، أي: إذا كان يريد أن يعذبنا فلماذا يعطينا الأموال وأولاد؟ لا يمكن أن يعطيني المال والولد، إلا لأنني إنسان جيد؛ لأنه لو كان يريد أن يعذبني لأجاعني.
هو هذا احتجاج المشركين، فالله سبحانه وتعالى رد عليهم بقوله: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ} [سبأ:٣٧]، أي: ليس لها قيمة، ولا تقربك من الله سنتيمتراً واحداً، إلا من آمن، أي فالإيمان هو الذي يقربك من الله: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ} [سبأ:٣٧].
{فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر:١٥ - ١٦] أي: ضيقه عليه، {فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:١٦] فربنا نفى القضية كلها، فليس الإعطاء دليل كرامة، ولا المنع دليل إهانة، قد نمنع الطعام والشراب عن مريض -مثلاً- بعد أن أجرى عملية جراحية، وهو يتوجع ويتوسل يقول: أريد قطرة ماء، سأموت، ألا ترحموني؟ ومع ذلك أنت يتقطع قلبك أسى عليه ولا تعطيه الماء؛ لأنك لو أعطيته الماء لقتلته، فبرغم توجعه إلا أنك لا تعطيه الماء، وكمثل الدواء المر، نتحمل مرارته لما نرجوه من البرء والشفاء بعد ذلك، والأعمال بالخواتيم.
فكذلك ذل الدنيا ساعة، سل الذي رُد إلى أرذل العمر، سل أطول الناس عمراً، قل له: ما قدر حياتك الماضية؟ يقول: طرفة عين.
الإنسان ابن لحظته فقط، وجعلت متعته كحياته، فمثلاً قد يمر عليك زمن طويل تتمنى أكلة معينة تشتهيها، وإذا سئلت عن سائر أمانيك من الدنيا وأعظمها، تقول مثلاً: آكل الأكلة الفلانية، فإذا أكلتها كم تكون لذتك؟ كم قدرها من الوقت؟ ثلاثين ثانية فقط، وهي مدة بقاء الطعام في فمك، مجرد ما بلعته انتهت متعته، كذلك العمر وكذلك الدنيا، ما فات مات، وأنت إنما تعيش اللحظة التي أنت فيها، الآن لو مرض رجل فسألته عن العافية، يقول: كأني ما مر بي عافية قط، ما فات مات أيضاً.
إذاً: ذل الدنيا ساعة، ولا خير في لذةٍ عاقبتها النار {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:٥٥]، ويوم النشور يتساءلون: كم لبثتم؟ قالوا: يوماً أو بعض يوم، فالدنيا قصيرة، مهما عمِّرْتَ فيها فهي قصيرة، فلا ترضَ عن الله بديلاً {إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:٤٩].