للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[القرآنيون وبيان انحرافهم]

نحن -أهل السنة- نفهم القرآن ليس كما يزعم المنتسبون إليه ممن يسمون الأشياء بغير مسمياتها.

يقولون: نحن القرآنيون.

وهم ينكرون السنة! يسمون الأشياء بغير اسمها، ومن المعلوم -مثلاً- أن أكثر الناس خيانة هو أمين الصندوق، ومع ذلك فإنه يسمى أمين الصندوق، والمثل يقول: (حاميها حراميها)، فقد تجد رجلاً -مثلاً- مبتدعا، ً وبدعته كفرية، ومع ذلك لقبه (محيي الدين)!! ومثل هذه يوضحه أحد الشعراء وهو يتوجع على ذهاب بلاد الأندلس، وقد ذهبت منا بإهمال الولاة والانغماس في الملذات والشهوات، وكان كل واحد من هؤلاء الأمراء يسمى (عضد الدين، ركن الدين، محيي الدين، ناصر الدين) وهم الذين ضيعوا الدين، فهذا الشاعر لما رأى هذه الألقاب الكبيرة ليست في مكانها أنشد قائلاً: ومما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتصم فيها ومعتضد أسماء مملكة في غير موضعها كالهر يأتي انتفاخاً صورة الأسد فهؤلاء القرآنيون يقولون: نعمل بالقرآن فقط.

فإذا سألتهم عن السنة قالوا: ليست من القرآن.

وكذبوا؛ فإن فالذكر قرآن وسنة بإجماع أهل العلم، والمرء إذا أهمل السنة فلا بد أن يكذب على الله، ولو أخذ بالقرآن وحده فهو كاذب على الله ولا بد؛ لأننا إذا تركنا السنة جانباً سنحل ما حرم الله.

فمثلاً: مسألة: هل يجوز لأحد أن يتزوج خالة امرأته أو عمة امرأته ويجمع بينهن؟ بالنص والإجماع: لا يجوز.

فهل وردت هذه المسألة في آية المحرمات؟ لم ترد أليس ربنا سبحانه وتعالى بعدما ذكر المحرمات قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:٢٤] وهذا كلام صريح.

إذاً: لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها بالنص والإجماع، فأين هي في القرآن؟ قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:١١٩] (فصل) أي: ذكر كل الجزئيات، فهل تجدون في القرآن تحريم لحوم الحمر الإنسية؟ الذين يقولون: نحن قرآنيون، وتركوا السنة بحجة أن الرواة غير معصومين، نقول لهم: هل يجوز أكل لحم الحمار؟ سيقولون: لا يجوز.

فأين تحريمه من القرآن؟ مع أن الآية واضحة {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:١١٩]، وهذا التفصيل غير وارد في القرآن، فأين هو؟ إذاً: هو في السنة، ولذلك قال العلماء في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩]، قالوا: الذكر: قرآن وسنة.

وأما حديث: (يا معاذ! بم تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد.

قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: فإن لم تجد قال: أجتهد رأيي ولا آلو)، فإنه حديث منكر عند أهل العلم بالحديث، البخاري، والترمذي والعقيلي وعند الدارقطني، وطائفة يصل عددهم إلى العشرة ذكرهم الشيخ الألباني رحمه الله في سلسلة الأحاديث الضعيفة.

وحتى لو صح هذا الحديث فلابد من فهم القرآن فهماً مستقيماً، فالقرآن مع السنة على مراتب: المرتبة الأولى: القرآن والسنة مع بعض.

المرتبة الثانية: ما انفردت به السنة من تأسيس الأحكام.

المرتبة الثالثة: ما لم يرد في السنة وثبت بالاجتهاد.

إذاً: هناك نص من القرآن يؤخذ مع السنة، فلا يصح أن ينفصل أحدهما عن الآخر؛ لأن السنة من تمام القرآن، وهي المبينة للقرآن: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:٤٤]، مثل الآية التي نتكلم فيها: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:٢٤]، إلا أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها، هذا تخصيص، فإذاً جاء القرآن مبيناً، والتخصيص من جملة البيان، وكقوله تعالى:: {إنما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} [البقرة:١٧٣]، (الميتة) اسم جنس محلى بالألف واللام يفيد العموم، و (الدم) اسم جنس محلى بالألف واللام يفيد العموم، ولنفترض أنك لا تعرف شيئاً عن هذا الاشتمال أبداً، وقرأت هذه الآية: {إنما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [البقرة:١٧٣]، فستفهم أن كل أجناس الميتة يدخل ضمن هذه الآية.

لأن: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) أي شيء يموت.

إذاً: أنت لا تستطيع أن تأخذ بالقرآن فقط هنا، ولابد أن تأخذ معه بالحديث؛ لأن الحديث بيان للقرآن؛ فصار الحديث من تمام القرآن وهذا هو النوع الأول، الذي هو النوع المبيِّن لكلام الله الذي لا يستطيع أن ينتفع به المرء إلا ببيان السنة.

النوع الثاني: الذي يمكن أن يتنزل عليه الكلام، أي: لم تجده في القرآن، فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالأحكام التي أثبتها النبي صلى الله عليه وسلم ولا توجد بلفظها في القرآن، وإن كانت بفحواها في القرآن، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: (ما من حُكم حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في القرآن) لابد، وليس لازماً أن يكون بنص، أو أن تأتي آية مخصوصة في هذه االمسألة.

ومن الأمثلة على ذلك: ما رواه البخاري وغيره: أن امرأة سمعت ابن مسعود رضي الله عنه يذكر حديث: (لعن الله الواشمة والمستوشمة، والفالجة والمتفلجة، والواصلة والمستوصلة).

فقالت: يا ابن مسعود! أتقول: لعن الله؟ قال: وما لي ألا ألعن من لعن الله، وهو في كتاب الله؟! فذهبت تلك المرأة إلى البيت وأخذت المصحف وقرأته من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، حتى تقف على آية لعن الله الواصلة والمستوصلة، فما وجدته، فذهبت إلى ابن مسعود وقالت: (يا ابن مسعود! لقد قرأت القرآن ما بين دفتيه -من الجلدة للجلدة- ولم أجد فيه ما تقول.

فقال: لئن قرأتيه لقد وجدتيه.

قالت: قرأته.

قال: أما قرأت قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:٧] فهذا مما آتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم).

إذاً: الإمام الشافعي أثبت هذا الكلام على مثل هذه الأحاديث، فما من حكم للنبي صلى الله عليه وسلم إلا ويرجع للقرآن نصاً، أو لآيات إيجاب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فنحن حين نأتي لنفهم قوله: (وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء)، لا نتصور أن الكتاب مقصود به القرآن فقط، بل القرآن وبيانه؛ إذ لا يُنتفع بالمجمل عادةً إلا إذا جاء البيان، ولأن الإشكال إنما يقع في باب الإجمال، فإذا كان النص مجملاً بلا بيان فقد تفهم شيئاً والآخر يفهم شيئاً آخر، فإذا بين زال الاختلاف.

(