للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تربية الأولاد على الاتباع]

عليك أن تبدأ بتدريب ولدك على تحقيق معنى أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وأنت بذلك تعظم ربك سبحانه وتعالى، فإذا ذكر الله رفعت صوتك في السماء بذلك؛ لأن الولد مثل المسجلة، فإذا ذكرت الله في البيت وسمعك ابنك ولم يتكلم قلت له: لم أنت ساكت هكذا؟ لماذا لم تكبر وتعظم الله؟ وقل هذا الكلام بحماس، فأول ما يسمع الولد لفظ الجلالة يكون متعوداً على التعظيم، فالذكر بالصوت العالي يكون فيه حفاوة، يعني مثلاً: الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه).

يعني أن صاحب أبيك الذي كان دائماً يأتيه، من أبر البر أن تذهب إليه بعد أن يموت أبوك، وتأخذ معك هدايا وما شابه.

فإذا كنت في حياة أبيك تعرف رجلاً معيناً أو اثنين أو ثلاثة، إذا وصلوا البيت أن أباك يقوم بالترحاب ويقابلهم بالعناق وما شابه، ويقول الكلمة المعتادة: نحن زارنا النبي! وزارنا النبي المقصود بها أنه ليس هناك أغلى منه، يريد أن يقول: ليس هناك أغلى منك، وطبعاً هناك تحفظ على هذا التعبير، لأن هناك أناساً قد تدخلنا في المتنبئين الكذبة، ولا يجوز قول هذا الكلام، وهو من المستبشع في اللفظ ولا يحل ذكره.

فإذا رأيت أباك يعظم أحد أصحابه، يظل تعظيم هذا الصاحب عندك طوال عمرك، وهذا الصاحب يأخذ قدره بقدر ما كان يأخذه في حياة أبيك، وكذلك عليك تعظيم ربك عز وجل وإذا ذكر فحذار من أن تخنس أو تثني عليه بصوت منخفص، ولكن ارفع صوتك، وهلل وكبر، وأمر أولادك أن يرفعوا أصواتهم ويهللوا ويكبروا، وإن كان صغيراً سمع كلامك فيتأثر به.

وإذا ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام فقل: أشهد أن محمداً رسول الله، عليه الصلاة والسلام، صلى الله عليه وسلم وأحياناً يا أخي قد تدركك العبرة، فأحياناً إن كنت صادقاً تدركك العبرة، فيراك ابنك ويرمق هذه الدمعة منك، فيربط بين الدمعة وبين ذكرك للنبي صلى الله عليه وسلم، أو بين ذكرك لربك وبين هذه الدمعة؛ فتؤثر فيه.

قال الإمام مالك رحمه الله: كنا نأتي ربيعة بن أبي عبد الرحمن فإذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى نرحمه، وهكذا المحب، كلما ذكرته بحبيبه بكي، وهو دائم البكاء؛ في اللقاء يخشى الفراق، وفي الفراق للاشتياق، فطالما حبيبه بعيد يبكي يريد أن يقابله، فإذا قابله بكي، فهو دائم البكاء جيئة وذهاباً.

فهؤلاء الجماعة كانوا معظمين للنبي صلى الله عليه وسلم، ومحققين معنى كلمة (أشهد)، يعني عندما يسمع الكلام يتخيل النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً أمامه وهو كأنه أحد الصحابة ويتلقى الأمر، ويريد أن يشرف نفسه، هل سينفذ الأمر مباشرة أم سيتوانى ويكسل؟ فلو كان الإنسان مستحضراً أن الرسول عليه الصلاة والسلام موجود أمامه، فمن الممكن أن يبكي إذا مس الحديث أوتار قلبه.

إذاً: ممكن أن يربط ابنك بين الدمعة والشهادة فتعظم المسألة عنده، وبعض الناس أراد أن يعلم ابنه حب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا بني! من أغلى الناس؟ فقال له: أنت يا أبي! فقال له: لا.

أغلى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أمر أمراً ينبغي أن يطاع، وأي أحد في الدنيا يخالفه ويقول شيء غير الذي قاله من ستسمع فيهم؟ فقال له: أسمع كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وظل يكرر عليه الكلام.

وابنك -كما قلنا قبل ذلك- لا يستوعب معنى اللفظ كاملاً، لا تظن أنك عندما تقول له هذا الكلام أنه اهتضم مائة بالمائة، وأن الرسول بالفعل أصبح أغلى شخص عنده، وأن كلامه لا يجب أن يخالف، لا.

بل هوأخذ منك كلامك على قدر فهمه هو، فإذا خالفك بعد ثانية واحدة فلا تقل له: لم تعاندني؟ هو لم يقصد أن يعاندك ولكن لم يفهم، فلعل عقله لم يستوعب من الكلمة إلا عشرها أو أقل من عشرها، فأنت محتاج إلى أن تكرر الكلمة الواحدة مرة ومرتين وعشر مرات إلى مائة، فكل يوم تقول له: إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام أغلى واحد هل تخالفه؟ فيقول: لا، ولو خالفه شخص من ستطيع؟ فيقول: الرسول.

وكل يوم على هذا المنوال.

وظل الرجل مدة طويلة وهو يقول له هذا الكلام كل يوم حتى حفظها الولد، فأراد أن يختبر الولد يوماً، وهذا بعدما علمه أن الكذب حرام وأن الذي يكذب يغضب منه الرسول فجاء شخص ودق الباب فقال له: قل له لست هنا! فالولد مباشرة خرج وقال له: أبي ليس هنا!! لماذا؟ لأن أباه حاضر أمامه، وهذا هو معنى الشهادة.

فالولد يخشى أن يوقع أبوه العقوبة به، فلما أمن الولد جانب العقوبة قال مباشرة: أبي ليس هنا، فمباشرة خرج الرجل ونادى صاحبه وأفهمه الموقف، وبأن هذا الولد أنا أقوم بتدريبه على كذا وكذا، وقلت له كذا وكذا، ثم جئت أختبره.

ثم جاء الولد، فقال له: لماذا قلت للرجل أني لست هنا؟ فقال الولد: أنت قلت لي هكذا، فقال له: ألم أقل لك قبل ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يحب الكذب؟! وأن الرسول عندما يقول لا تكذب، وأنا أكذب، فعليك أن تسمع كلام الرسول!! فلم يضربه، لأنه لو ضربه لكره التعليم، فلا تعاقب ولدك بالصراعات في مقتبل العمر.

ذات مرة أراد أحد المدرسين أن يكون ابنه الأول على المدرسة؛ لأنه مدرس ويحب الطالب المتفوق في الصف، وكل مدرس عنده هذه القضية مستقرة في نفسه، ومهما كلمته عن ملكات الأطفال، وأن مستوى الذكاء متفاوت، يقل لك: لا، لازم يطلع الأول، وتأتي لآخر يريد أن يلبس ابنته الحجاب والبنت لا تريد أن تلبس الحجاب أبداً، فيقول لها: أقسم بعزة الله إن لم تكوني الأولى على المدرسة لألبسنك الحجاب!! أي نكد هذا، يعني لو لم تكن الأولى على المدرسة سنعاقبها ونلبسها الحجاب؟!! أي تربية هذه، فيحصل انطباع عند البنت بأن الحجاب هذا عقوبة، فتكرهه من قلبها، فلا تجعل العقوبة هي الطاعات وأنت تعلّم الولد، إنما عندما يصير للولد أهلية للثواب والعقاب عاقبه إذا أخطأ، لماذا؟ لأن المعاني ستكون مستقرة عنده، فتقول له: لا تعمل هذه، وهو كبير عمره خمس عشرة أو عشرين سنة، فيفهم الموقف، لكن إذا كان الولد صغيراً وقلت له: لا تعمل هذه، هو فهم منها عشرة بالمائة، والتسعين بالمائة في اللعب الذي هو يريد أن يلعبه، فعندما يكون له أهلية عاقبه على قدر استعيابه، لكن طالما كان صغيراً لا تعاقبه، أقلل من العقوبة طالما كان الولد صغيراً، وحفزه دائماً.

وأنا أعرف مسجداً افتتح بحارتنا سنوا فيه سنة كبيرة جداً، وهي أنهم وضعوا كيساً من الشوكولاته والحلوى فأمس فقط وجدت أولاد أناس من جيراني لا يدخلون المسجد، ودخلوا المسجد مرة فأخذوا حلوى، وإذا بهم كل يوم في المسجد، فأخذت أتكلم مع الإمام بعد أن خرج الناس وما زال الأطفال جالسين، فاستغربت ماذا يريد هؤلاء الأطفال؟ وأنا لا أعرف السبب، فذكر لي أنهم كل يوم يأتون ليأخذوا حلوى، ألا تنزل هؤلاء الأولاد منزلة المؤلفة قلوبهم، تألف قلوبهم، فربنا عز وجل فرض سهماً في الزكاة للمؤلفة قلوبهم.

يعني لو أنّ لديك رجلاً غير ملتزم وتريد منه أن يلتزم لا تكلمه، إنما استخدم رجلاً آخر كسفير بينك وبينه يعطيه هدية منك، وتستطيع بذلك أن تكسر الحاجز النفسي الذي بينك وبينه عن طريق الهدية، والهدية عطية.

والصحابة الذين كانوا يأخذون سهم المؤلفة قلوبهم لم يأخذوها بعد ذلك، فقال قائلهم: والله لا آخذ على الإسلام أجراً، لأنه أسلم في البداية من أجل أن يأخذ مالاً، لكن بعد ذلك ما رضي أن يأخذ أجراً، وحسن إسلامه.

فكيس الحلوى الذي بثلاث جنيهات تجعل الأولاد الطامحين كلهم يصلون، فالولد الصغير تنطبع عنده كل هذه الأشياء، وأنت من تعظيمك لله ورسوله ولهجك بالثناء عليهما، هذا كله يلاحظه الولد فيرثه، فإذا عظم يبدأ بتدوير معنى آخر بداخله لا تعلم أنت ما هو.

هذا ما عجزت أنت عن تحقيقة إذ فرط أبوك في تربيتك، فلا تفرط أنت مع أولادك، أقم الصلاة وآت الزكاة وصم رمضان وحج البيت، كل هذا مبني على معنى (أشهد).

هناك جماعة يذهبون للحج؛ لكن لم يحققوا معنى كلمة (أشهد)، وقد رأيت أناساً بعيني على جبل الرحمة في يوم عرفات يدخنون السجائر، وأناساً في الخيمة يشربون المعسل، وانظر إلى شخص جالس في يوم عرفة -الذي يباهي فيه الله عز وجل بالجمع: (أتوني شعثاً غبراً ضاحين) - يشرب السجائر، وآخر يشرب المعسل في الخيمة.

هؤلاء لم يحققوا معنى كلمة (أشهد).

لما حجيت أول مرة مع الشيخ الألباني رحمه الله، ونحن خارجون من باب الفندق لقينا رجل مصري وهو يشرب بالشمال، فقال له الشيخ: يا فلان أو يا شيخ -ولا أذكر لفظ الشيخ بالضبط- لا تشرب بالشمال! فرد عليه قائلاً: هذا دواء!! وهل الدواء يشرب بالشمال؟! وأنا توقعت الإجابة، فعندما يقول له: قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا يشربن أحدكم بشماله، ولا يأكلن بشماله، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله) فيأتي يقول هو: هذا دواء، ليس بأكل ولا بشرب، وهكذا يكون خرج من الحديث فينظره السقيم.

{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} [النساء:١٠]، فيقول لك: أنا لا آكله -ظاهرية جامدة على اللفظ- لو أحرقته لا أقع تحت الآية، لكن لو أكله يقع تحتها، وما الفرق بين الإحراق والأكل وكله إتلاف، والقصد أنك لا تتلف مال اليتيم، وليس معنى هذا أن تحرقه ولا تأكله فيكون عليك حراماً.

فلما قال له: قال الرسول عليه الصلاة والسلام كذا وكذا قال له: هذا دواء، ولا يوجد أحد من الصحابة إطلاقاً خالف في هذه المسألة، فكل مخالفة في الفعل يأتي بها المكلف سببها أنه لم يحقق معنى كلمة (أشهد) التي تفيد الشهادة والحضور والنظر، سواء كان في شطر الشهادة الأول: أشهد أن لا إله إلا الله، أو في الشطر الثاني: أشهد أن محمداً رسول الله.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.