للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاهتمام بالنفسيات من سمات العلماء]

هذا الحديث يشتمل على جُملٍ من العلم، أول هذه الجمل: أن الصحابة رضوان الله عليهم كان عندهم من فقه بعلم النفس ما لم يكن عند أي جيلٍ جاء بعدهم، والمقصود بعلم النفس هو تنزيل الكلام على مقتضى حال المخاطب، هذا هو فقه النفس أن تضع الكلمة في مكانها، سواء كانت بشدةٍ أو كانت بلطف، كما قال المتنبي: ووضع الندى في موضع السيف بالعلى مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى بمعنى أ، الإنسان الرقيق إذا عاملته بالسيف فهذا مضر، لكن إذا وضعت السيف في مكانه، فحسن وجميل؛ برغم أنه شديد، والشدة في موضعها هي اللطف، كما أن اللطف في موقعه هو كذلك، فأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كانوا فقهاء، يظهر ذلك من سؤال صفوان بن عسال المرادي -وهو أحد أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام- لما رأى زر بن حبيش جاء وقد قطع هذه المسافات لأجل أن يسأل مسألةً، قال: ما جاء بك يا زر؟ قال: ابتغاء العلم، قال له: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يطلب).

فهذا هو فقه النفس، أن بشره بالجائزة، فطالب العلم الذي يقطع المسافات الطويلة في سبيل طلب العلم، حين يعلم أن الملائكة تضع أجنحتها له رضاً بما يطلب؛ يهون عليه كل شيء.

الله تبارك وتعالى جبل الناس على أن يعملوا لأجر، لذلك قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:١١١]، تصور الحوار الذي دار بين النبي عليه الصلاة والسلام في بعض المعارك وبين رجل كان يأكل تمرات قال: (مالي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ قال: لك الجنة، فرمى بالتمرات وقال: إنها لحياةٌ طويلة حتى آكل هذه التمرات)؛ لأن الذي يفصل بينه وبين الجنة هو أن يموت، فاستكثر هذه الدقائق التي يكمل فيها التمر، ورمى بها وقال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات، ثم قاتل حتى قتل.

لو أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما سأله هذا الرجل وقال له: مالي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ فقال: ليس لك شيء؛ هل كان يرمي بالتمرات ويستعجل الموت؟

الجواب

لا، إنما لأن هناك نتيجة وجائزة، رمى بهذه التمرات.

كما جاء رجلٌ إلى عبد الله بن الزبير أيام حربه مع الحجاج بن يوسف الثقفي، لما ضرب الحجاج الكعبة بالمنجنيق، فجاء رجل كان مشهوراً بالقتال، فقال لـ عبد الله بن الزبير: أنا فارسٌ مغوار، وصنعت كذا وكذا، وجعل يعدد له أمجاده، ما تعطيني إذا قاتلت معك الحجاج؟ فقال: أعطيك كذا وكذا من الأموال، قال: أنقدني، فقال له: عندما نرجع، فتولى عنه الرجل وقال: أُراك تأخذ روحي نقداً، وتعطيني دراهمك نسيئة! فالله عز وجل جبل الناس على أن يعملوا لشيءٍ لأجر، ولذلك جعل الجنة وجعل النار، وجعل يبشر المتقين بالجنان، ويبشر الكافرين بالنار، كل هذا لأنه جبل الناس على أن يعملوا لشيء، وهذا البحث يظهر بشيءٍِ من التأمل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها).

(فسيلة) أي: نخلة.

لماذا قال: (فليغرسها)؟ لأن الإنسان لكونه لا يعمل إلا لأجل هدفٍ، فإنه لا يغرس النخلة عادةً إلا ليأكل منها من يأتي من بعده من أولاده وأحفاده، فلما تقوم الساعة لن يأكل منها أحدٌ، فلربما تجاوب الرجل مع ما هو مجبول عليه، فيرمي هذه الفسيلة، ويقول لنفسه: من الذي ينتفع بها؟ فيرميها، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال له: خالف ما جبلت عليه واغرسها.

وأضرب مثلاً يقرب المقصود من الحديث: أعرف طبيباً غنياً، وكان عنده عيادتان، وعنده عدة عمارات، وتزوج بابنة خالته وكان شديد الحب لها، والله تبارك وتعالى كأنه قضى عليها بالعقم، وهو يريد الولد منها، فدار تقريباً في أكثر دول العالم المتقدمة في الطب، رجاء أن يرزقه الله تبارك وتعالى الولد منها، وفي آخر مرة ذهب بها إلى النمسا، رجع وقد قضي على آخر أملٍ له في الإنجاب، فلما رجع جعل يبيع العمارات، وباع عيادة من عيادتيه فلما سئل: لماذا تفعل ذلك؟ قال: ولمن أترك كل هذا؟ هو لو علم أنه عقيم من أول ما تزوج، أو امرأته عقيم من أول ما تزوج، ما كان عنده ذاك الأمل في هذا البنيان ولا هذه الاستزادة من المال، لكنه كان يؤمِّل يقول: لعل الله تبارك وتعالى يرزقني ويهب لي مولوداً، فلما علم يقيناً أنه لا أمل في ذلك، صار يبيع كل هذا، وصار يستمتع بالمال ويقول: لمن أتركه؟ إذاً: الإنسان مجبول على حب المكافأة، فـ صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه -وهو فقيه عالم بالنفس- بمجرد أن رأى زر بن حبيش قد قطع كل هذه المسافات حتى يسأل عن مسألةٍ، أعطاه الجائزة الذي تهون عليه كل صعبٍ لقيه في سبيل هذه المسألة.