الزجر بالهجر له درجات منها: التأديب، فإذا تجاوز ولدك حده، أو امرأتك، أو من لك عليه ولاية؛ جاز لك أن تهجره أكثر من ثلاثة أيام تأديباً، ولمعنى شرعي كما قلنا، كما روى البخاري في صحيحه من حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه قال:(باعت عائشة بيعاً أو قال: وهبت هبةً -وكانت عائشة كريمة، سخية اليد- فبلغ ذلك عبد الله بن الزبير وهو الأخ الأكبر لـ عروة بن الزبير، وهو ابن أسماء بنت أبي بكر أخت عائشة، فـ عائشة هي خالته، وقد كانت رضي الله عنها سخية، وعبد الله بن الزبير كان فيه بخل، فلما علم أن عائشة رضي الله عنها وهبت قطعة أرض كبيرة- فقال: لتنتهين عائشة أو لأحجرن عليها.
فبلغ ذلك عائشة فقالت: أو قال ذلك؟ لله علي ألا أكلمه إلى أن أموت -نذرت: أي: نذراً واجب الوفاء-، فطال الهجر على عبد الله بن الزبير، واستشفع بطوب الأرض أن تكلمه عائشة، وكل ذلك وعائشة تأبى تمام الإباء -ولا يخفى ما لـ عائشة رضي الله عنها من الفقه في دين الله عز وجل، فليست من النساء اللواتي يعتركن على الدنيا أو يهجرن للدنيا- فلما طال الهجر على عبد الله بن الزبير ذهب إلى المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وكلاهما من بني زهرة، فشكا إليهما، فقالا: نحتال لك حيلة، فجاءوا بعباءة واسعة، والمسور بن مخرمة واقف هنا، وعبد الرحمن هنا، وقالا له: ادخل في وسطنا، وتدثروا ثلاثتهم بالعباءة، ووقفوا على الباب عند عائشة واستأذنوا، قالت: من؟ قال: المسور وعبد الرحمن.
فقالت: ادخلا، قالا: ندخل كلنا؟ قالت: ادخلوا كلكم، فدخلوا جميعاً، فدخل عبد الله بن الزبير ورفع الستر، ورمى نفسه على عائشة يقبلها وهو يعتذر، وهي تشيح عنه، يكلمها فلا تكلمه، ويتوسل إليها فلا تقبل توسله، والمسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود يناشدانها الله عز وجل أن تكلمه، فما زالا بها حتى كلمته وسط دموعها الغزيرة، وهي تقول: إني نذرت والنذر شديد، ثم أعتقت عائشة رضي الله عنها في ذلك أربعين رقبة حتى تتحلل من نذرها).
يقول العلماء: هذا المثال يدل على جواز أن يهجر المرء تأديباً، لا سيما إذا كان لمعنى شرعي؛ لأنه لا يجوز لـ ابن الزبير أن يتدخل في هبة عائشة لغيرها، فإنه إذا ملك الإنسان ملكاً فهو حر في هبته أو بيعه، ولا يحل لأحد أن يفتات عليه، فهذه مرتبة من مراتب الهجر لمعنى شرعي.