[من سلوكيات الصحابة ونسائهم]
(ثم استقبل عمر رضي الله عنه الحديث يسوقه، قال: كنت أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنا وجار لي من الأنصار من بني أمية بن زيد، وهم من عوالي المدينة) وهذا يدلك على حرص عمر بن الخطاب على تحصيل العلم، وأن طالب العلم لا يشترط له أن يتفرغ، ما كان عمر متفرغاً، إنما كان صاحب همة.
ومن هذا ننبه بعض طلبة العلم إلى أن من يقول: أنا لا أستطيع أن أطلب العلم إلا إذا تفرغت.
نقول له: لا، لو كنت صاحب همة لا يعوقك عن طلب العلم ما تجده من العمل.
فقسم عمر رضي الله عنه الأيام بينه وبين صاحبه، ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، ويكون صاحبه في تجارته أو زراعته، ثم ينزل عمر إلى تجارته أو زراعته، ويكون هذا الأنصاري عند النبي صلى عليه الصلاة والسلام، فيأتيه بخبر ذلك اليوم، لو نزل وحي أتاه به، ولو قضى النبي صلى الله عليه وسلم في قضية أتاه بها، ولو قال حديثاً أو حدثت واقعة يقص عليه ما حدث من خبر ذلك اليوم.
قال رضي الله عنه: (كنت أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنا وجار لي من الأنصار، ينزل يوماً وأنزل يوماً.
قال: وكنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم) وفي بعض الروايات (قال: فلما أنزل الله عز وجل ذكر النساء تبجحن، ورأين أن لهن علينا فضلاً) فبدأت النساء لما نزل الوحي يشاركن الرجل في العبادة وتحمّل تكاليف الشريعة، وأهل مكة أم القرى، يعاملون النساء معاملة مباينة لمعاملة أهل المدينة، فأهل المدينة يعاملون النساء معاملة ألطف من معاملة أهل مكة.
وفي بعض الروايات الأخرى قال عمر: (وإنما كانت المرأة لحاجة أحدنا، فإذا أحتاجها قضى حاجته، ثم لا يكون لها بعد ذلك ذكر ولا كلام).
فلما هاجروا من مكة إلى المدينة، والطبع ينتقل من إنسان إلى آخر؛ بدأت النساء يرمقن فعل نساء الأنصار مع أزواجهن، وينقلن مثل هذا الأدب إلى بيوتهن، انظر إلى لطف عمر وحسن تعبيره، مع أنه معترض! قال: (فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار) ولم يقل: من قلة أدب مع أنها من وجهة نظر عمر قلة أدب، لأنه معترض، ومع ذلك يقول: (فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار) وفي الألفاظ سعة، فالعرب كان عندهم ذوق رفيع في استخدام الألفاظ، مثلاً: (القافلة) إنما تقال للذين رجعوا ولا تقال للذين ذهبوا.
ومع ذلك يقولون للذين ذهبوا (قافلة)؛ تيمناً برجوعها.
(اللديغ) كانوا يسمونه (سليماً) رجاء سلامته، الصحراء كانوا يسمونها (مفازة) تفاؤلاً بالنجاة منها.
ثم هذا أوقع من أن يذكر اللفظ الصريح.
فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار) وفي رواية أخرى أيضاً في صحيح البخاري: (يأخذن من أرابيب نساء الأنصار) (الأرب): هو العقل.
قال: (فصخبت عليَّ امرأتي ذات يوم فراجعتني) والصخب من وجهة نظر عمر، مجرد أنها تراجعه.
في بعض الروايات قال: (فتناولت قضيباً فضربتها، وقلت لها: أتراجعينني؟ قالت: ولِمَ لا أراجعك؟ وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه، وليس هذا فقط، بل ويهجرنه اليوم حتى الليل) وهذا يبين لك أثر القدوة.
وقد تعبر كلمة واحدة عن مكنون ما في النفس، على سبيل المثال مرة وفي بعض المؤتمرات في بعض البلاد رجل نيف على التسعين عاماً، معه عصا يتوكأ عليها، وذهب إلى هذا المؤتمر، وبعد ذلك قال: أيها الناس! اسمعوني رفع العصا، وقال: العصا هذه معوجّة من أين؟ قالوا له: من فوق.
قال لهم: السلام عليكم.
هذا الذي أراد أن يقوله، ومضى الرجل بعد أن أوصل رسالة مهمة إلى أذهان الحاضرين.
القدوة له أثر عظيم في استقامة المجتمع، إن الله تبارك وتعالى حكم عدل، إذا كان الرأس صالحاً رزقه الله مرءوسين صالحين، وإذا كان فاسداً رزقه فاسدين، هذه من السنن الكونية التي لا تتخلف، والله عز وجل لا يحابي أحداً من عباده.
فامرأة عمر بن الخطاب تقول له: لِمَ تنكر وأزواج النبي -اللاتي هن القدوة- يفعلن كذا وكذا؟! (يراجعنه، بل ويهجرنه اليوم حتى الليل) ولم تقل: ويهجرنه الليل حتى الصبح؛ لأن هذا لا يجوز، ولا تقع فيه واحدة من أزواج النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن المرأة إذا باتت هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح، إنما الواحدة منهن كانت تغاضب النبي عليه الصلاة والسلام من أول النهار إلى آخر النهار.