للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد]

إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فقد اشتهر عند علماء السلف قولهم: (الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد، وترك الأسباب بالكلية قدح في التشريع)، وإنما ردوا بهذه المقالة على الذين غلوا في الأسباب وجفوا عنها، فقولهم: (الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد) بمعنى: أن العبد إذا التفت إلى السبب عن المسبب؛ فقد أشرك بالله عز وجل، فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لو قال الرجل: لولا الكلب لسرق اللص الدار لكان مشركاً.

والعبرة هنا بما يكنه قلبه، وإلا لو قال الرجل هذه المقالة، وهو يعني اختصار القول فقط، كأن يقول كما يقول علماء الأرصاد: تأتي الرياح الشرقية فتدفع السحب، فتسقط الأمطار، إذا عنى أن الرياح الشرقية والغربية هي التي ساقت الأمطار من نفسها، وأن الأمطار نزلت، فهذا هو الشرك بالله، أما إذا اختصر العبارة فقط، فقال: إن ذلك بفضل الله تبارك وتعالى وبقدرته، فهذا لا بأس به، كما قال عز وجل: (أصبح من عبادي مؤمن وكافر، فمن قال: مطرنا بفضل الله؛ فهذا مؤمن بي، كافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فهذا كافر بي، مؤمن بالكوكب).

فكثير من العباد افتتن بالأسباب، لاسيما إذا جاء السبب كاملاً، فهو يتصور أنه لابد أن يجني الثمرة طالما كان السبب كاملاً، فرد الله عز وجل هذا الاعتقاد بقصة مريم عليها السلام وهي قصة عجيبة مدهشة.

(كانت مريم عليها السلام قوية فتية في غاية صحتها، وكان يأتيها رزقها بغير أن تعمل، كما قال تبارك وتعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:٣٧]، وهي قادرة على الاكتساب، فلما ولدت ونفست وأصبحت في أضعف حالاتها -ومعروف أن المرأة بعد ما تلد تكون قد استنفدت كل قواها- قال لها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:٢٥]، فتصور امرأة نفساء ماذا تفعل بنخلة؟ بل لو جاء مائة رجل من الأشداء فهزوا النخلة ما أسقطوا تمرة واحدة منها، فكيف قال لها ذلك؟! وقد أبان الشاعر المجيد عن هذا المعنى بقوله: توكل على الرحمن في الأمر كله ولا ترغبن بالعجز يوماً عن الطلب ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يتساقط الرطب فلو شاء أن تجنيه من غير هزه جنته ولكن لكل رزقٍ سبب أراد الله عز وجل أن ينبهنا في الحالة الأولى أن الأسباب قد تكتمل على وجهها ومع ذلك لا تؤتي الثمرة، ومثل ذلك أنك ترى هذا في رجل صحيح (١٠٠%)، وامرأته صحيحة (١٠٠%)، ومع ذلك لا ينجبان، ويضع الطب تقريره أنه لا مانع إطلاقاً لا عند الرجل ولا عند المرأة، ومع ذلك يظل الرجل محروماً من الإنجاب مع اكتمال السبب.

والله عز وجل يريد أن يعلمنا أنه لا ينبغي الافتتان بالسبب إذا جاء على كماله، ويريد أن يعلمنا أيضاً أن لا نلتفت عن السبب لقول الله عز وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:١٧]، حتى لا يفهم بعض الناس أننا ننفي تأثير الأسباب، فالمعتزلة يقولون: إن السبب لا قيمة له، ولذلك ولج من هذا الباب كثير من العاطلين الذين قالوا: إذا كان الله كتب لنا الجنة؛ فإننا سندخلها بلا عمل، وإذا كان قد كتب علينا النار، فلو عملنا كل طاعة في الدنيا لا تفيد الطاعة، فأبطلوا شرع الله عز وجل بسبب هذا.

أما نحن فنقول: إن الأسباب لها تأثير، ولكن الأسباب لا تؤثر إلا بإذن الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى) ففهم بعض الناس من قوله: (لا عدوى) أنه نفى العدوى مع أنه عليه الصلاة والسلام قال: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) فهذا فيه إثبات للعدوى.

لكن كيف نوفق بين هذين الحديثين؟

الجواب

أن الجمع بين الحديثين أن نقول: لا عدوى تنتقل بذاتها، وليس بالضرورة إذا جلست بجانب إنسان عنده مرض مُعْدٍ أن تحمل نفس المرض، بل قد يحمل الإنسان المرض، ويأتي آخر فلا يحمله، وأنت ترى أن الإنسان ممكن أن تأتيه رصاصة في رأسه في موضع ما ولا يموت، ويصاب آخر في نفس الموضع فيموت، فلو كان السبب مؤثراً -لا محالة- في كل حال؛ لكان ينبغي أن يكون التأثير عاماً، شاملاً كافة الخلق، لا يتخلف ولا يميز بين إنسان وآخر.

ومما يدل على أن الأسباب لا تؤثر بنفسها وإنما بمشيئة الله قول الله عز وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:١٧] رميت الأولى بمعنى: أصبت، ورميت الثانية بمعنى: سددت الرمية، ورميت الثالثة بمعنى: أصبت، إذاً: عندنا رميتان بمعنى الإصابة، ورمية واحدة بمعنى تسديد الإصابة، فيكون معنى الآية: وما أصبت إذ رميت ولكن الله أصاب، وهذا يدل على أن الله عز وجل هو الذي يخلق التأثير في السبب، فيكون السبب مرة قاتلاً ويكون مرة غير قاتل، مثال آخر: (النار) معلوم أن من طبيعتها الإحراق، ومع ذلك نزع الله عز وجل عنها الإحراق لما رموا فيها إبراهيم عليه السلام، فهذا يدلنا على أن الله عز وجل هو الذي يسبب الأسباب، وهو الذي يجعلها تؤثر، لكنه أمرنا بأخذ الأسباب.

وباء السببية في القرآن كثيرة، قال الله عز وجل: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:٣٢] الباء هنا: باء السببية، فإن قال قائل: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)، وقال تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:٣٢] أي: ادخلوا الجنة بسبب ما كنتم تعملون، وهذا الحديث ظاهر التعارض مع الآية، فهل الباء التي وردت في الحديث هي باء السببية؟ أي: لن يدخل أحد منكم الجنة بسبب عمله؟ قال العلماء: لا.

بل الباء في الحديث هي باء العوض والمقابلة، أي: لن يدخل أحد منكم الجنة عوضاً عن عمله، لأنه لا يوجد إطلاقاً إنسان على وجه الأرض يستطيع أن يعمل عملاً يقابل النعم التي أنعم الله تبارك وتعالى بها عليه، وقد روى الحاكم في مستدركه بسند ضعيف، ونستأنس بهذه القصة فقط، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جاءني جبريل، فقال لي: يا محمد! إن رجلاً عبد الله في جزيرة ستمائة عام، وسأل الله عز وجل أن يقبضه وهو ساجد، فأخرج الله عز وجل له رماناً من الصخر، وأخرج له عيناً من الماء العذب بقدر الإصبع، فكان يأكل من الرمانة، ويشرب من الماء، ويصلي، فلما جاء موعد وفاته، قال الله عز وجل: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: بل بعملي، فقال: عبدي! إنه لا يظلم عندي اليوم أحد، كما قال تبارك وتعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:٤٧] فوضعوا نعمة البصر في كفة، ووضعوا عبادة ستمائة عام في كفة، فطاشت العبادة، ورجحت نعمة البصر، وبقيت بقية النعم فضلاً من الله عليه، لم يؤد شكرها) وقد وضع ووضع نعمة البصر في الميزان أولاً؛ لأن أعظم ما يبتلى به المرء أن يفقد عينيه، كما قال الله عز وجل في الحديث الإلهي: (إذا ابتليت عبدي بفقد حبيبتيه؛ فصبر؛ لم أجد له جزاء إلا الجنة) وفي اللفظ الآخر: (إذا ابتليت عبدي بفقد كريمتيه؛ لم أجد له جزاءً إلا الجنة)، وإنما سماها حبيبة؛ لأن المرء يحب الدنيا بها، فإذا فقدهما؛ استوى عنده الدر الثمين مع الخرز المهين، فلا قيمة لأي شيء عند الأعمى؛ لأنه لا يتمتع برؤية هذه الأشياء، ومن يحب الدنيا لا يحبها إلا بعينيه غالباً، وسماهما كريمتين أيضاً؛ لأن العبد إذا فقد عينيه احتاج إلى الخلق؛ والحاجة إلى الخلق ذل، فلا يكاد يمشي خطوة إلا وهو يحتاج إلى من يساعده.

فلذلك الإنسان إذا أنعم الله عز وجل عليه بنعمة البصر فقد أكرمه؛ لأنه عافاه من ذلك الافتقار والاحتياج للناس، فلذلك وضعت هذه النعمة نعمة البصر، ولذلك طاشت عبادة الستمائة عام، (فقال الله عز وجل: خذوه إلى النار، فجعل يستغيث ويقول: يا رب! أدخل الجنة برحمتك، فقال: أرجعوه، فقال الله عز وجل له: عبدي! خلقتك ولم تكن شيئاً أبرحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: من أخرجت لك رماناً من الصخر برحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: أخرجت لك عيناً عذبة من الماء المالح أبرحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: قويتك على عبادة ستمائة عام أبرحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: برحمتي ادخل الجنة، يا عبدي! كنت نعم العبد).

فيظهر من هذا أنه لا يستطيع إنسان أن يوفي نعمة واحدة مهما فعل، وحسبك مثالاً ما جاء في آخر الحديث: (قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) هل وجدت أحداً تورمت قدماه من كثرة الوقوف في الصلاة غير نبينا عليه الصلاة والسلام؟ لا تكاد تعثر على رجل بمثل هذا الجد، وهو أعبد من مشى على الأرض بقدميه صلى الله عليه وسلم.

يقول: (ولا أنا) فهذا يدل على أن كل العباد الذين يأتون بعد ذلك وعملهم ناقص عن عمل الرسول عليه الصلاة والسلام لا يدخلون الجنة بأعمالهم، فالباء هنا هي باء العوض وليست باء السببية.

والذين لا يفهمون ولا يعملون للآخرة أكثر الناس اعتراضاً على الله عز وجل في باب القضاء والقدر، وبالمقابل انظر إلى الصحابة والأجيال التي أتت بعد ذلك، انظر إلى استقامة فهمهم، روى البخاري ومسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (