[الفرق بين شباب السلف الصالح وأبنائنا]
هنا قصة طريفة جداً رواها الخطيب في كتابه (الكفاية في علوم الرواية) تبين لك الشعور بالمسئولية وكيف يصير هذا الشاب الطموح إماماً إذا تعاهدته، يروي هذه القصة من طريق أحمد بن النضر الهلالي، قال: سمعت أبي يقول: كنا في مجلس سفيان بن عيينة -وهذا عالم في الرواية، وشيخ الشافعي، ومن أقران مالك، قال الشافعي: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز- إذ دخل صبي صغير؛ فضحك بعض من في المجلس، فتلا سفيان قوله تعالى: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:٩٤] ثم قال: لو رأيتني يا أبا نصر وأنا ابن عشر سنين، طولي خمسة أشبار، وجهي كالدينار، وأنا كشعلة نار، ثيابي قصار، أكمامي صغار، وذيلي بمقدار، ونعلي كآذان الفار، أختلف إلى علماء الأمصار مثل الزهري وعمرو بن دينار، أقعد بينهم كالمسمار، محبرتي كالجوزة، مقلمتي كاللوزة، فإذا دخلت المجلس قالوا: أوسعوا للشيخ الصغير.
ثم ضحك سفيان بن عيينة، قال أحمد: ثم تبسم أبي وضحك، قال عمار بن علي: ثم تبسم أحمد وضحك، إلى آخر الإسناد، حتى وصلت البسمة إلى الخطيب البغدادي.
فانظر إلى سفيان بن عيينة وله عشر سنين، ويختلف إلى من؟ إلى الزهري، وإلى عمرو بن دينار الذي أدرك جابراً، والزهري أدرك أنساً وسهل بن سعد، أي: أنهم من كبار التابعين، قال: (فأقعد بينهم كالمسمار) أي: أنه دائم الجلوس، لا يقوم حتى يقوموا.
نحن الآن يقعد فينا مفت ولو كان عمره ستون سنة، فيصير كـ البخاري وهو ابن أحد عشر عاماً.
كان مجلس البخاري مجلس يقعد فيه مائة ألف أو يزيدون وما في وجهه شعرة -أي: لم تنبت له لحية- بل إذا انحدرنا إلى التاريخ القريب نجد أن الحافظ ابن حجر العسقلاني مات وللسيوطي من العمر ثلاث سنين، ومع ذلك كان والد - السيوطي - يأخذه وهو ابن ثلاث سنين حتى يتشرف بمجالس أصحاب ابن حجر، مع كونه لا يدري وليس هناك تحمل ولا إجازة لأنه صغير، ومع ذلك كان يأخذه، ويمتن الحافظ السيوطي فيما بعد ويقول: كان أبي يأخذني إلى مجالس أصحاب ابن حجر وهو ابن ثلاث سنين فقط، لا يدري، والولد اليوم يكون عمره عشر سنين ولا يحضر الصلوات إلا بالضرب.
بل هناك أعجب من ذلك: مات عبد الرزاق وللزبري من العمر ست سنوات فقط، وروى الزبري مصنفات عبد الرزاق كلها، ولم يطعن أحد من العلماء في سماع الزبري من عبد الرزاق بن همام الصنعاني علامة اليمن وإمامه، ودونك المعجم الصغير للطبراني، لا يروي الطبراني شيئاً عن عبد الرزاق إلا من طريق إسحاق بن إبراهيم الزبري! وهناك أحد الرواة روى سنن أبي داود عن أبي علي اللؤلؤي، أبو داود له رواه: كثيرون لسننه، فتجد في بعض الروايات ما ليس بمرضي، فأحياناً يقول: رواه أبو داود.
وتبحث عنه في سنن أبي داود فلا تراه، فيكون هذا مثلاً من رواية أبي بكر ابن داسة، فإذا أردت أن تظفر برواية ابن داسة فعليك بسنن البيهقي، لأن البيهقي لا يروي حديثاً من سنن أبي داود إلا من طريق ابن داسة وليس من طريق اللؤلؤي.
فيبقى عندنا روايتان لسنن أبي داود: رواية أبي علي اللؤلؤي وهي المطبوعة الآن بين أيدينا، ورواية ابن داسة: وهي الموجودة في سنن البيهقي، وفيها زيادة في الأحاديث على رواية اللؤلؤي.
فأتى هذا الراوي شيخ شيخ الخطيب وكانت آخر عرضة سمعها من أبي علي اللؤلؤي وهو ابن خمس سنين، وروى كتاب أبي داود كله عن اللؤلؤي بسنده إلى أبي داود بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم كل السنن، ولم يطعن أحد في روايته وهو ابن خمس سنين أين هؤلاء؟!! كيف يتأتى للمسلمين أن يظفروا بمثل هذا إلا بعد أن توجد طبقة علماء ربّانيين، الذين لا يبيعون دينهم، والذي يصبرون على الحق المر، إذا زل العالم زل بزلته عَالمَ.
عندما أنظر إلى شيخ الأزهر -وهو لابس أكبر عمامة موجودة في البلد- فأراه في جنازة أحد الوزراء يمشي في الصفوف الأمامية والموسيقى تدق، والنعش على مدفع، وهو لا ينكر، كيف يتأتى للعوام أن يعرفوا الحق من الباطل بهذا الوضع؟! فإذا أنكرنا ذلك قالوا: شيخ الأزهر قد فعلها؟! يمشي في جنازة مخالفة لجنازة المسلمين لا يشك في هذا أحد أن هذا ليس من ريح الإسلام، إنما هذه جنازات أوروبا، ويذهب ويأخذ بيديه الشريفتين الورد ويضعه على قبر الجندي المجهول، قام ووضعه على نعش المتوفى.
كيف يمكن للعوام أن يعرفوا الحق من الباطل وأكبر رأس فيهم يفعل هذه الأفاعيل؟ بل كيف يمكن للعوام أن يصلوا إلى الحق وهم يرون أن أحد الكبار فيهم يسأل: ما الذي يعجبك يا مولانا؟ قال: والله أنا يعجبني فريد شوقي، والأغاني القديمة التي كان يغنيها عبد الوهاب، وأغاني أم كلثوم بألحان رياض السنباطي، لأنه هادئ قليلاً! أسمع هذا الرجل وأتعجب في نفسي وأقول: كيف للدعاة إلى الكتاب والسنة أن يتقلدوا كل هذا حتى يصلوا إلى قلوب العوام؟!! متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم