[قصة صاحب الأرض التي أمرت السحابة أن تسقي أرضه]
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداًَ عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (بينما رجل يسير في أرض فلاة إذ سمع صوتاً في سحابة يقول: اسق أرض فلان.
فتنحى ذلك السحاب في شرجة من شراج الحرة، فاستوعبت الماء كله، فذهب، فإذا رجل يساعد هذا الماء بمسحاة له حتى يأخذ طريقه إلى بستانه، فقال له: ما اسمك يا عبد الله؟ قال: ولم تسألني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتاً في سحابة يقول: اسق أرض فلان باسمك.
قال له: أما قد قلت ذلك فإني أنظر ما يخرج منها فأقسمه ثلاثة أثلاث، فآكل أنا وعيالي ثلثه، وأتصدق بثلثه، وأرد فيها ثلثه).
هذه القصة -كما وردت في بعض الروايات- حدثت في بني إسرائيل، والإسرائيليات يقسمها العلماء إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: قسم يحتج به، وتؤخذ منه الأحكام الشرعية، وهذا القسم هو الذي صح سنده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كقصة أصحاب الغار، وقصة الغلام مع الملك، وقصة الرجل الذي تسلف ألف دينار إلى آخر هذه القصص، فكلها صحيحة في نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيأخذ منها العلماء الأحكام الشرعية والآداب المرعية، وهذا القسم يحتج به كله.
القسم الثاني: ما صح سنده إلى قائله من بني إسرائيل، وهذا النوع هو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا حدثكم بنو إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم) وهذا النوع يستشهد به العلماء من باب الاعتضاد، لا يحتجون به منفرداً، وإنما إذا كان موافقاً للأصول العامة احتجوا به، كالقصة التي رواها ابن الأعرابي في معجمه: أن عيسى عليه السلام خرج مع رجلٍ، وكان معه ثلاثة أرغفة، فقال: رغيف لي، ورغيف لك.
ثم أن عيسى عليه السلام نام، فاستيقظ فلم يجد الرغيف الثالث - فقال لصاحبه: أين الرغيف الثالث؟ - قال: لا أدري.
- فدعا غزالاً فذبحه وشواه وأكلاه، ولم يبقيا منه إلا العظام، فدعاه عيسى عليه السلام فقام غزالاً بإذن الله، قال: سألتك بالذي أحيا هذا الغزال من الذي أكل الرغيف؟ - قال: لا أدري.
فانطلق، فوجدا ثلاثة أجبل -جبال كبيرة- فحولها إلى ذهب - وقال: هذا لي، وهذا لك، والثالث لمن أكل الرغيف.
- قال: أنا أكلته.
- قال: لا خير في صحبتك وتركه.
وعيسى عليه السلام يضرب المثل للحواريين بتفاهة الدنيا، فهذا الرجل أراد أن ينقل هذه الجبال الثلاثة إلى بلده فوجد اثنين، فأراد أن يستعين بهما على نقل هذا الذهب الكثير، قال الرجلان: ولم نقسم هذه الأجبل على ثلاثة أسلاف؟! نحن نقتل هذا الرجل ونأخذ هذا الذهب كله، وأضمرا في نفسيهما أن يقتلاه، فأرسلاه إلى السوق ليأتي بطعام، فبينما هو يمشي إلى السوق قال: ولم نقسمه إلى ثلاثة أجزاء؟! أنا أضع لهم سماً في الطعام وأنفرد بالذهب، فجاء بالأكل وفيه السم، فما إن تلقياه حتى انهالا عليه ضرباً فقتلاه، ثم جلسا يأكلان فأكلا الطعام المحشو بالسم، فماتوا جمعياً وتركوا جبال الذهب.
يضرب عيسى عليه السلام المثل للحواريين بحقارة الدنيا أننا جميعاً نتقاتل من أجلها ثم نتركها كلها للذي يرث الأرض ومن عليها تبارك وتعالى، وكل يخرج منها كما ولدته أمه.
قال الله عز وجل {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد:٣٦] وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء)، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ضربت الدنيا لابن آدم مثلاً بطعامه، وإن قدحه وملحه فلينظر كيف يخرج).
وهناك عشرات النصوص تدل على حقارة الدنيا، فلا مانع أن تحتج بمثل هذا النوع من الإسرائيليات لتعضد المعنى الصحيح في الآيات وفي الأحاديث الصحيحة.
وكذلك ما رواه أبو الشيخ وغيره (أن ملك الموت عليه السلام كان يجالس سليمان) هذا القدر ثبت في مسند الإمام أحمد بسندٍ قوي (أن ملك الموت كان يجلس مع الأنبياء بصورة آدمية، وكان يجلس مع سليمان عليه السلام جليس له وصفي له، فدخل ملك الموت وما يعرفه الجليس، لكن لاحظ الجليس أن هذا الرجل الثالث يتفرس فيه وفي وجهه، لم يلبث كثيراً وانصرف، فقال الجليس لسليمان: من هذا الذي يتفرس في وجهي؟ قال: ذاك ملك الموت، فارتعب الرجل، وقال: لا أكون في أرض بها ملك الموت أين تريد؟ قال: مر الريح أن تأخذني إلى الهند.
وأخذته الريح فعلاً إلى الهند.
بعد قليل جاء ملك الموت ودخل على سليمان عليه السلام، قال له سليمان: لم كنت تتفرس في وجه جليسي؟ - قال: ذاك رجل أمرني الله أن أقبض روحه في أرض الهند، فلما وجدته عندك تعجبت، لكني لما ذهبت إلى الموعد المعلوم والمكان المعلوم وجدته هناك).
هذه القصة يمكن أن تذكر -مثلاً- في مثل قوله تبارك وتعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء:٧٨] فنحن نستخدم هذا القسم من الإسرائيليات لتدعيم المعنى الذي نريد أن ننقله للعوام.
القسم الثالث: وهو الذي لم يصح سنده إلى قائله من بني إسرائيل، فهذا النوع لا عليك أن تذكره.
وهذا التقسيم مهم؛ لأنه قد انطبع في أذهان كثير من الناس أن معنى إسرائيليات أي: مكذوبات، وليس كذلك؛ للتقسيم الذي ذكرناه.