[عقبة الشبهات]
إن جميع الأشياء لا تخلو من أحد ثلاثة أحكام، قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير في الصحيحين: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات) فالأمر لا يخرج عن أن يكون حلالاً محضاً، أو حراماً محضاً، أو مشتبهاً: أما الحلال البين المحض فكل الناس يعرفه.
وأما الحرام المحض فكل الناس يعرفه، وإن تذرع أحدهم أنه لا يعرفه، قال الله عز وجل: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:١٤ - ١٥]، يقول: أنا ما كنت أعرف أنه حرام، لكنه في قرارة نفسه يعرف أنه حرام، فهو يدعي كذباً أنه لا يعرف، فلو لقي الله عز وجل لفضحه، لأنه يعلم.
إذا كان الحرام لا يلتبس على الحيوانات فهل يلتبس على الذي نزل الله عز وجل عليه الكتاب ليعمل به؟! فإن القط لو خطف قطعة اللحم من أمامك لا يمكن أن يأكلها بجانبك، بل يخطفها ويهرب، لكن لو أعطيته أنت القطعة أكلها بجانبك، فهو يعرف الحلال من الحرام.
إذاً: الإنسان الذي ركب الله عز وجل فيه آلة العقل، وجعلها مناط التكليف لا يمكن أن يكون جاهلاً بالحرام المحض (١٠٠%).
لكن المشكلة في الشبهات؛ فهن (لا يعلمهن كثير من الناس) إذاً: لا يعلم حقيقة الشبهة إلا أقل الناس.
الشُبهة أو الشَبهة هي شيء يتجاذبه طرفان: من وجه تجدها حلالاً، ومن وجه آخر تجدها حراماً، فتسأل نفسك: هل تلتحق بالحلال أم بالحرام؟ رجل يقول: أنا أضع أموالي في حساب جار في البنك، الحساب الجاري ليس عليه فائدة، إذاًَ: أنا بهذا نجوت من الربا؛ لكنه وضع أمواله في بنك، وهذا هو الذي عكر عليه الموضوع، وجعله يسأل أي مفتٍ يلقاه، ولو كان يعتقد أنه حلال (١٠٠%) ما سأل أحداً، ما سأل إلا لأنه خائف، وعنده شك، ولو أنه أخذ المال وأعطاه لأحد التجار، ليضارب به فلن يذهب إلى مفت ليسأله: قل لي إذا أنا شغلت مالي عند أحد فهل هذا حلال أو حرام؟ ولا أحد يسأل هذا السؤال.
إنما حين وضع المال في البنك، والعلماء تكلموا عن الربا في البنوك، وبعد أن وضع المال، قال لك: لا آخذ رباً، لكن بقيت مسألة البنك، فيأتي العالم، هل علي جناح؟ نقول: نعم؛ لأن أدنى ما في هذه قول الله عز وجل: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:٢] أنت تعطي البنك سيولة يصرف نفسه.
أرأيت إلى رجل مرابٍ في بلد، ورجل عنده مال، فيذهب للمرابي يقول له: خذ عندك المائة ألف هذه إلى أن أرجع.
فهل سيترك هذا المرابي المائة ألف أو يستغلها؟ ويقرض الناس منها بالربا؟ فهذا تعاون على الإثم والعدوان، وإن لم تأخذ من هذا المال فائدة.
فهذا السائل يسأل عن هذا الأمر؛ لأن لهذا الأمر وجهين: وجه حلال ووجه حرام.
فلذلك مفتي الشبهات: هو الورع؛ وهو مفتي من لا مفتي له، فإذا عرض لك عارض في عمل ما، ولم تجد مفتياً، فإن الحل هو في قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) فالورع هو المفتي الجاهز الذي هو ملازم لك، لا يفارقك سفراً ولا حضراً، فإن لم تجد مفتياً، وأنت تريد تسأل عن أمر: أحلال هو أم حرام؟ فإن الورع يفتيك بترك هذا الأمر الذي اشتبه عليك (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن حام حول الحمى كاد أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى).
أي دولة في الدنيا لها حدود آمنة، لو حاول أي شخص أن يعتدي عليها يبذل أهل الدولة النفس والمال في سبيل الدفاع، ورئيس البلد يقول: هذه سيادة بلد، فكيف تخترقون الحدود؟ وتبقى مشكلة: (ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)، فإذا دخل رجل على محارم الله، فكيف لا ينتقم وهو ملك الملوك؟! كيف لا ينتقم من الذي دخل الحمى؟! كيف تؤمن نفسك؟ هذا الحلال البين: منطقة، والشبهة، وبعدها الحرام، إذا بقيت في الحلال طول عمرك كيف تصل إلى الحرام، وبينك وبينه منطقة الشبهة، إذاً: بينك وبين الحرام منطقة آمنة هي منطقة الشبهة، لكن لو قفزت من المنطقة الحلال ونزلت في الشبهة اقتربت من الحرام، الذي سوغ لك أن تنتقل من الحلال إلى الشبهة سيجرك إلى الحرام، وطالما دخلت هذه الأرض المحايدة المنزوعة السلاح، فإنك لا تأمن أن تتقدم خطوة كل يوم حتى تصل إلى الجدار الفاصل ما بين الشبهة والحرام، ومن ثم تقع في الحرام.
فإذا أردت أن تبقى دائماً بعيداً عن الحرام فلا تغادر منطقة الحلال أبداً، لا تنزل في منطقة الشبهة، وتورع عن كل شبهة (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه ولعرضه).
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.