[النهي عن قول: (ما شاء الله وشئت)]
وكما قلت: الغلو أحد أركان الكفر، وهو رأس كل شر؛ ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام كان يحول بين الصحابة وبين الغلو فيه، ولم يترك سبيلاً إلا سده، حتى في العبارة، وإن لم يكن المتكلم يقصد غلواً.
روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح عن طفيل بن سخبرة أخي عائشة لأمها: (أنه رأى فيما يرى النائم كأنه مر برهط من اليهود؛ فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن اليهود.
قال: إنكم أنتم القوم لولا أنكم تزعمون أن عزيراً ابن الله، فقالت اليهود: وأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد، ثم مر برهط من النصارى؛ فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن النصارى.
فقال: إنكم أنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله.
قالوا: وإنكم أنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وما شاء محمد.
فلما أصبح أخبر بها من أخبر ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: هل أخبرت بها أحداً.
قال: عفان.
قال: نعم.
فلما صلوا خطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن طفيلاً رأى رؤيا فأخبر بها من أخبر منكم وإنكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها.
قال: لا تقولوا ما شاء الله وما شاء محمد).
فانظر جعل اليهود والنصارى الكلمة عدلاً لقولهم: عزير ابن الله.
المسيح ابن الله.
يعني: لو قال ما شاء الله وشاء محمد كأنما قال محمد ابن الله، وهكذا قاسوها، وجعلوها من الشرك، وكأنهم قالوا له: لا تعيرنا، نحن وأنتم سواء، نحن قلنا: المسيح ابن الله، وأنتم تقولون: ما شاء الله ومحمد.
فكأنهم نزلوا العبارتين على معنى واحد.
فالرسول عليه الصلاة والسلام خطب الناس ونهى أن يقول المسلم: ما شاء الله ومحمد؛ لأنه إذا قال ما شاء الله ومحمد، فهذا تشريك في المشيئة.
وفي الحديث الصحيح -الصحيحين- (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله نداً؟! قل: ما شاء الله ثم شئت)، فقوله: (أجعلتني لله نداً؟!) يعني: لو قال ما شاء الله ومحمد كأنما جعل محمداً إلهاً -صلى الله عليه وسلم- لذلك قال: (أجعلتني لله نداً) نداً: عدلاً، وفي اللفظ الآخر (عدلاً)، برغم أن المتكلم لا يقصد حقيقة المعنى.
ووصل الأمر في سد الذرائع إلى هذا الحد: أن العبارة لو كانت موهمة عدلها، حتى وإن لم تقصدها، فأنت لا تدري السامع كيف يؤولها وكيف يفهمها، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام لما نهى عن بعض الأسماء التي فيها إيهام بمعنى قبيح، نهانا عن التسمية بها، فقال (لا تسمين غلامك يساراً، ولا رباحاً، ولا نجاحاً، ولا فلاحاً -وفي رواية نجيحاً- حتى إذا قيل: أثمَّ هو؟ قال: لا) مع أن المتكلم ما قصد ولا سبق إلى ذهنه هذا المعنى، لا في حال الكلام ولا في حال الاستماع، (إذا قيل: أثمَّ هو.
قال: لا): يعني: مثلاً أن تقول: نجاح موجود؟ فيقولون: لا نجاح.
يسار موجود؟ لا يسار، كأنما نفى النجاح واليسار عن البيت، برغم أن المتكلم لا يقصد نفي اليسار ولا النجاح ولا الفلاح، ولكن المسألة ليست في المتكلم فحسب، بل ينبغي أن يراعي المستمع، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم في باب الأيمان قال -كما في الحديث الذي رواه مسلم -: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك) يعني: في التورية قد تتكلم بكلام لا يسبق إلى ذهن المستمع، وأنت تتخلص من الكذب بهذه التورية.
مثلاً: رجل دعاك إلى طعام، وأنت تعرف أن طعامه حرام أو فيه شبهة، كرجل -مثلاً- يعمل في بنك ربوي وليس له أي وظيفة إلا العمل في البنك الربوي، وأنت لا تريد أن تأكل عنده؛ لأن ماله حرام؛ لحرمة العمل في البنك.
فقال لك: تقدم فكل.
فقلت له: إني صائم، ومعنى صائم الذي يخطر على بال المستمع: أي: أنك صائم الصيام الشرعي الذي فيه امتناع عن الطعام، لكنك لست صائماً، وإنما قصدت أنك صائم عن طعامه، أي: أنا صائم عن الحرام، أو أنا صائم عن الكلام الفاحش، وهذه المعاني أنت قصدتها لكنها لم تخطر على بال المستمع.
وفي باب الأيمان -في الحلف- الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك) فلو حلفت على التورية صارت كذباً، يعني: قلت: أنا صائم، لست بكذاب، إذا قلت أنا صائم وقصدت الصيام الخاص عن طعام هذا الإنسان، لكن إذا قال لك: احلف أنك صائم، فلو حلفت وقعت في الكذب؛ لأن اليمين على ما سبق إلى ذهن صاحبك وليس على ما قصدته أنت، إذاً: أنت في حل ما لم تحلف، فإذا حلفت على المعاريض انقلبت كذباً، ففي بعض المواقف يراعى فيها حال المستمع.
فالرسول عليه الصلاة والسلام نهى أن يسمي المرء غلامه نجاحاً أو فلاحاً أو يساراً؛ لأن هناك طرفاً آخر -المستمع- ربما سبقت الكلمة إلى ذهنه وفهمها على غير ما قصدتها.
والمستمع قد يسبق إلى ذهنه بدلالة العبارة معنى لم يخطر على بال المتكلم، فينبغي أن يراعى المستمع، ومن هذه الأسماء إسلام مثلاً، مع أنه اسم ذكر، إلا أن فيه نفس العلة التي من أجلها نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن التسمي بيسار ونجاح ورباح.
يقال: إسلام موجود؟ لا يوجد إسلام.
لا يوجد إسلام.
يعني: نفي الإسلام عن البيت، وما قصد المتكلم ذلك لكن كانت كلمة مستبشعة عند المستمع.
فهو لما يقول: ما شاء الله وشئت، ما خطر على بال المتكلم، لكن وقعت في ذهن المستمع، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أجعلتني لله نداً -أو عدلاً-؟! قل: ما شاء الله ثم شئت) و (ثم) تفيد التراخي، وجود مسافة بين المشيئتين، فلا تسوي بين مشيئة الله عز وجل وبين مشيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
هناك قصة مشهورة يذكرها العلماء حدثت بين الكسائي وبين أبي يوسف صاحب أبي حنيفة رحمه الله، فكان الكسائي يقول: - من علم اللغة صار فقيهاً.
- فأنكر عليه أبو يوسف هذه المقالة، وقال: إن الفقه له قوانين وضوابط وأصول.
- فقال: فناظرني في مسألة.
- فقال له أبو يوسف: هات - فقال الكسائي: ما تقول في رجل قال لامرأته: أنت طالق طالق طالق، ورجل قال لامرأته: أنت طالق وطالق وطالق، ورجل قال لامرأته: أنت طالق ثم طالق ثم طالق أيّ هذه تكون طلقة بائنة؟ فقال أبو يوسف: كلها.
ومذهب الأئمة الأربعة وجماهير أصحابهم: أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثاً في مجلس واحد تقع ثلاث طلقات، فلو قال لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق؛ تصير طالقاً ألبتة، لا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره، وخالفهم في هذا شيخ الإسلام ابن تيمية وقليل من العلماء ممن سبقه وأتى بعده، وهم الذين قالوا: لا يقع الطلاق إلا في مجالس منفصلة، وصارت عليه الفتوى من بعد شيخ الإسلام إلى الآن في المحاكم الشرعية.
- فقال أبو يوسف: كلها.
مع أن الأظهر على أصول الأئمة أن يقع تكرار الطلاق، يعني: لو قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً، فالأصل أنها تحسب واحدة، لكن متى يقع الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد؟ إذا كرر لأن العدد لا يفهم إلا مع التكرار، فلو قال لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ثلاث مرات، وهو في مجلس واحد في جلسة واحدة، فعند الأئمة يقع ثلاثاً، لكن لو قال لها: أنت طالق ثلاثاً، بمفهوم العدد لا يقع إلا واحدة، لأن العدد لا يفهم إلا مكرراً.
فلو قال مثلاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وكبر ثلاثاً وثلاثين، وحمد ثلاثاً وثلاثين -وفي رواية وكبر أربعاً وثلاثين بدل ثلاث وثلاثين- فتلك مائة؛ غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر) فلو قال رجل: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، الحمد لله ثلاثاً وثلاثين، الله أكبر ثلاثة وثلاثين فهذه كم مرة؟ هل قالها مائة أو قالها ثلاث مرات فقط؟ ثلاث مرات؛ لأن العدد لا يفهم إلا مكرراً، أن أقول: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله أظل أعد ثلاثاً وثلاثين مرة، لكن لو قلت: الحمد لله ثلاثاً وثلاثين، لا تقع إلا مرة واحدة.
فإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق بالثلاث فلا تقع إلا واحدة، إنما لو قال لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق في مجلس واحد ومتكررة وراء بعضها، فعند الأئمة وعند جماهير الأصحاب تقع ثلاث مرات.
لذلك قال أبو يوسف رحمه الله: كلها تقع لماذا؟ لأن المرة الأولى قال لها: طالق طالق طالق، فكانت ثلاث طلقات، والثانية قال: طالق، وطالق، وطالق، والثالثة: طالق ثم طالق ثم طالق.
فاعترض الإمام علي بن حمزة الكسائي -صاحب القراءة المتواترة المشهورة، وهو أحد القراء السبعة- فقال: بل لا تقع ثلاثاً إلا الثالثة، التي هي: أنت طالق ثم طالق ثم طالق، إنما: قوله: أنت طالق طالق طالق، خرج مخرج التأكيد اللفظي، كما لو قال رجل لرجل: أنت الكريم الكريم الكريم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن يوسف عليه السلام: (هو الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم)، كل هذا تأكيد للفظ الكريم، فلما تؤكد صفة تأكيداً لفظياً وتكرره فهي نفس الصفة ولم تتغير.
وفي المثال الثاني قال: أنت طالق وطالق وطالق، والواو لمطلق الجمع، وتفيد العطف أيضاً، والمعطوف الثاني هو عين المعطوف الأول، والمعطوف الثالث هو عين المعطوف الثاني وهو عين المعطوف الأول، فلم يبق في هذه الصيغ ما يقال: أنه منفصل -كل طلقة منفصلة عن أختها- إلا (ثم) التي تفيد التراخي، أي: كأنه قال: أنت طالق ثم فصل المجلس، ثم جاء فقال: أنت طالق ثم فصل المجلس، يعني: هناك تراخٍ بين الطلقة الأولى والطلقة الثانية، وبين الطلقة الثانية والطلقة الثالثة.
فالنبي عليه الصلاة والسلام نهى أصحابه أن يقول أحدهم: ما شاء الله وشاء محمد، وقال: (إنكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها) فيمكن أن يستشكل إنسان هنا، ويقول: وهل يعمل النبي صلى الله عليه وسلم بالحياء في مسائل التوحيد؟