[آفات الغلو]
وأكبر آفات الغلو: أن ينظر الغالي إلى الناس من مكان عالٍ، فيراهم أقل منه، فيحتقرهم ويزدريهم، لذلك لا يغلو عبد إلا خرج من الهدي الصالح في آخر الأمر.
جماعة التكفير هؤلاء، ما هي الآفة عندهم؟ يرى أحدهم أنه هو المسلم والكل كافر! أهناك تزكية للنفس أكثر من هذا؟! مع أنهم -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - فيهم من الظلم والغلو أضعاف أضعاف ما في الذين يكفرونهم، يرى أحدهم أنه هو المسلم الوحيد، وكل من عداه كفره، وآخر أمره: تنظر إليه يخرج من دينه في النهاية، وأسوته في ذلك جدهم الأعلى ذو الخويصرة الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- وقال: (يا محمد! اعدل، فإنك لم تعدل.
قال: ويحك! ومن أحق أهل الأرض أن يعدل إذا لم أعدل أنا؟! خبت وخسرت إن لم أعدل.
ثم تولى الرجل، فقال خالد: دعني أقتله يا رسول الله! قال: دعه، فإن له أصحاباً -وفي راوية- يخرج من ضئضئ هذا -الضئضئ: هو الأصل- أقوام يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد).
والنبي صلى الله عليه وسلم بهذا القول يخاطب أبا بكر، ويخاطب عمر، ويخاطب علياً، ويخاطب عثمان، يخاطب السادة العباد، يقول: أيها العباد! إنه يخرج من أصل هذا رجال يعبدون الله أكثر مما تعبدون! يصلون أكثر مما تصلون! يصومون أكثر مما تصومون! يقرءون القرآن أكثر منكم! أكثر من أبي بكر وعمر! إي نعم، أكثر من أبي بكر وعمر، مع أن الصحابة كانوا على الغاية القصوى من العبادة، ومع ذلك يخرج من أصل هذا أقوام أكثر اجتهاداً في الصلاة والزكاة والقراءة من هؤلاء الصحابة الأخيار.
لكن ما نفعتهم هذه الصلاة، ولا كثرة الصيام، ولا ظمأ الهواجر، ولا قراءة القرآن، قال عليه الصلاة والسلام: (يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية) أرجو أن تتأملوا هذا التشبيه! سهم يخرج من الرمية بهذه القوة، كم تكون سرعته؟! ليته إذ خرج من دينه خرج الهوينى، يمشي على مهل، لكنه يخرج من دينه بأقصى سرعة! فأين صلاته؟ وأين صيامه؟ وأين قراءته للقرآن؟! أين ذهبت؟! مع أن المفروض أن أمثال هذه العبادة تثبت العبد على دين الله، لكن ما نفعتهم، لماذا لم تنفعهم؟ بسبب الغلو الذي أخرجهم من الدين كما يخرج السهم من الرمية.
وقد قال أحد السلف: (أخلص دينك لله يكفيك العمل القليل) فإن الله تبارك وتعالى يزن العباد بقلوبهم.
الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا في كل أمورهم وفتاواهم يمشون على الجادة؛ لذلك وصلوا.
والرسول عليه الصلاة والسلام أمر أصحابه فقال: (بشروا ولا تنفروا، يسروا ولا تعسروا، وعليكم بشيء من الدلجة).
ما هي الدلجة؟ الدلجة: هي الليل، إذا أردت أن تسافر فسافر ليلاً؛ فإن الأرض تطوى بالليل.
وأنا جربت هذا، ولعل بعضكم جرب.
في الليل المسافة تكون أقل.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أراقب عدة مرات الساعة وعداد الكيلومترات أجد أن الفرق بين سير الليل والنهار نصف ساعة، هذا للذي يريد أن يسافر، لكن مقصود النبي عليه الصلاة والسلام، -أو من مقصوده- في هذا الحديث: (عليكم بالدلجة) أي: عليكم بقيام الليل، يعني: صلِّ والناس نيام تَصِلْ، كما أنك إذا أردت السفر تسافر ليلاً فتطوى الأرض لك، فإذا قمت بالليل طويت العبادة لك، وطويت المشقة، فتشعر بهذه اللذة؛ لأن في الليل الإخلاص، إذ لا يتصور أن يقوم مراءٍ منافق من سريره ولا يراه أحد، فيتجشم الوقوف أمام الله رب العالمين ليرائي؛ فلا يقوم بالليل إلا مخلص؛ لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بشيء من الدلجة) لأن هذا هو الذي يناسب أول الحديث: (بشروا ولا تنفروا، يسروا ولا تعسروا وعليكم بشيء من الدلجة).
إذاً: هؤلاء الخوارج الذين كفروا جمهور الصحابة، وكفروا عامة المسلمين بارتكاب الكبيرة، لسان حالهم يقول: نحن أبرار، نحن لا نرتكب الكبيرة؛ لذلك نحن مؤمنون وأنتم كفرة.
ما معنى أن يكفر غيره بالكبيرة؟ معناه: أنه لا يفعل الكبيرة، فرجل يبرئ نفسه من الإثم ويرمي به غيره ظالم معتد.
لذلك خرج من تحت عباءتهم -أو شاركهم في بعض ما يقولون- جماعة أتوا فقالوا: إن الله يجب عليه أن يفعل الأصلح للعباد! انظر إلى الكلام! إن الله يجب عليه! من الذي أوجب عليه؟! وهل لأحد عليه حق.
؟! إن الله يجب عليه أن يفعل الأصلح للعباد! وهذا قول المعتزلة، وهذا كله بسبب الغلو.
والجهمية الذين نفوا عن الله تبارك وتعالى صفاته فعلوا ذلك بسبب الغلو، فكل داء خرج من تحت عباءة الغلو.
هناك مناظرة طريفة حدثت بين أبي الحسن الأشعري وبين شيخه أبي علي الجبائي رأس المعتزلة، وأبو الحسن الأشعري رحمه الله كان رأساً في المعتزلة؛ لكن بعد هذا المناظرة ترك مذهب الاعتزال.
قال أبو علي الجبائي: إن الله يجب عليه أن يفعل الأصلح لعباده.
فقال له أبو الحسن -وكان لا يزال على مذهب المعتزلة: أفرأيت إلى ثلاثة إخوة: أحدهم مات صغيراً قبل أن يحتلم، وكبر اثنان، فآمن أحدهما وكفر الآخر، فدخل المؤمن الجنة، ودخل الكافر النار.
فقال: ما حالهم؟ قال: إن الله تبارك وتعالى يقول: إن الذي كبر وكفر استحق النار، والذي كبر وآمن استحق الجنة.
وما حال الصغير الذي قبضته قبل أن يحتلم؟ قال: علمت أنه لو كبر لكفر، فدخل النار، فراعيت مصلحته فقبضته صغيراً، فحينئذ صاح الذي في النار وقال: يا رب! لم لم تراع مصلحتي؟! لم لم تقبضني صغيراً كأخي؟! قال: فانقطع أبو علي الجبائي، وخرج أبو الحسن من المعتزلة؛ لأنه كلام متناقض على أصولهم، إذا كان الله يجب أن يفعل الأصلح لعباده فما هو الأصلح أن يدخل العبد النار؟! كل هذا بسبب الغلو، ولا تجد فُرقةً بين المسلمين إلا بسبب الغلو؛ ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو، فقال: (إياكم والغلو! فإنما أهلك الذين من قبلكم الغلو في الدين) ولذلك كان كلما خطب عليه الصلاة والسلام يقول: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) لأنه كان هدياً قاصداً، ما فيه عنت؛ لذلك أسعد الناس هم المتبعون للرسول عليه الصلاة والسلام، لا يجدون على الإطلاق مشقة.