للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأسوة الحسنة في زمن الفتن والمتغيرات]

أيها الرجل: إن كنت رجلاً حقاً فلك أسوة في إبراهيم، رجل يساوي أمة، قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:١٢٠] فلك أسوة بهذه الأمة كما تأسى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم به، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:١٢٣].

فإن فترت همتك ولم تكن رجلاً، فتأس بالصبيان بإسماعيل عليه السلام مع أبيه إبراهيم عليهما السلام: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:١٠٢] انظر هذا الاستثناء الجميل! (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ) كأنما لم يثق بقوة عزمه فقد يتراجع حال الذبح؛ فوكل ذلك إلى الله، وهضم حق نفسه وأشار إلى ضعفه وخوفه أن يخور عزمه وهو يشعر بحد السكين على عنقه، فما أعقله من صبي (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)، ولو تأسيت به لكنت كبيراً، مع أنه يوم قالها كان صبياً.

ثم إن نزلت همتك عن همة الصبيان فتأسَ بالنساء، لا أقول لك: تأسَ بامرأة حرة بل أمة -وتعد ربع رجل؛ إذ أن المرأة الحرة تعدل نصف رجل، والأمَة تعدل نصف حرة- بـ هاجر عليها السلام، لما دخل إبراهيم عليه السلام وسارة إلى مصر، وكان يحكمها جبار عنيد، لا يسمع بامرأة جميلة إلا اصطفاها لنفسه، وقد كانت سارة عليها السلام آية في الجمال، فالجواسيس أول ما رأوا جمال سارة، قالوا له: هناك امرأة جميلة شكلها كذا وكذا، فإبراهيم عليه السلام قال لها: إذا سألك فقولي له: إنني أخته، فأنا لا أعلم أحداً يعبد الله غيري وغيرك وهذا تعريض، وهي من الكذبات الثلاث التي كذبها إبراهيم عليه السلام، ولكنه كذبها في الله.

فلما رآها جميلة جداً أراد أنه يصل إليها، فشلت يده، فقال: ادعي الله لي أن يخلصني ولن أمسك بسوء.

فدعت الله عز وجل، فأراد أن يمد يده مرة أخرى، فشلت، فقال: ادعي لي، فدعت الله، فارتدت يده، فمد يده مرة ثالثة وهذا يشبه حال الكافرين في الآخرة بعد اعترافهم ومعايشتهم العذاب قال تعالى عنهم: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:٢٨].

ولذلك أمثال هؤلاء ممن لم يعاينوا التكليف في هذه الحياة الدنيا، كالأصم يأتي يوم القيامة، فيقول: يا رب! أنا أصم، لا أسمع، ولو جاءني الرسول لآمنت، وكذلك الولد الذي مات صغيراً قبل أن يبلغ الحلم يقول: أنا كنت صغيراً ولم أسمع، وكذلك المجنون يقول: أنا لم يكن لي عقل، ولو كان لي عقل وأتاني الرسول لآمنت.

فيقول لهم الله عز وجل: لئن أرسلت إليكم رسولاً لتؤمنن به؟ فأعطوه الموثق على ذلك: نعم، سنؤمن به، فأرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار، فمن أبى أن يدخلها قذف إليها، وهذا لو كان في الدنيا وجاءه الرسول كان سيكذب.

إذاً: ما هي العلاقة ما بين النار في الآخرة وما بين التكليف في الدنيا؟ أنت ربما تعذب في الدنيا وتدخل النار بسبب ثباتك على دينك، مثل أصحاب الأخدود، فهؤلاء رموا في الأخدود؛ لأنهم آمنوا بالله عز وجل، وكذلك كان في الأمم السابقة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل فينشر بالمنشار -وهو حي- حتى يفصل ما بين اللحم والعظم ما يرده ذلك عن دينه) فهذه هي النار، فشابهت النار في الآخرة نفس ثمار التكاليف في الدنيا: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:٢٨].

فهذا خبيث! مرة ثالثة -أيضاً- يمد يده فشلت، فطلب منها أن تدعو الله أن يرسل يده فدعت الله عز وجل فأرسل يده، وأحضر الجاسوس وشتمه، وحتى يتقي شرها أعطاها هاجر أمةً لها، فتزوجها إبراهيم عليه السلام، وحملت وولدت، فغارت سارة منها.

عن ابن عباس قال: إن أول من اتخذ المنطق -الحزام الذي تربطه النساء على الوسط- هاجر عليها السلام، وكان المنطف عبارة عن قطعة قماش تجره وراءها على الأرض لتمحو آثار أقدامها عن سارة، بسبب ماذا؟ بسبب الغيرة.

أخذها إبراهيم عليه السلام من الشام ورحل بها وجاء بها مكة كما قال الله عز وجل: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم:٣٧] لا إنسان ولا حيوان، واد خال تماماً، هي وابنها الرضيع، وتركها وابنها في مكة ولم يكلمها، وانطلق راجعاً إلى الشام، فنادته: (يا إبراهيم! يا إبراهيم! يا إبراهيم! وهو لا يرد، فانطلقت وراءه حتى وصلت إلى مشارف مكة تقول: يا إبراهيم! حملتني إلى هذا الوادي ولا يوجد إنسان! لمن تتركنا يا إبراهيم؟ فلم يرد عليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ فأومأ برأسه أن نعم، قالت: إذاً: لا يضيعنا، ورجعت).

هي هذه ربع الرجل! لو كنت متأسياً فتأسَ بمثل هذا الربع: فلو كان النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال الرواية الأخرى في البخاري لهذه القصة قال ابن عباس: (فانطلقت وراءه ونادته، وقالت: لمن تتركنا يا إبراهيم؟! فسكت ولم يرد.

فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، أمرني.

قالت: رضيت بالله).

في الرواية الأولى: قالت: لن يضيعنا، والرواية الثانية قالت: رضيت بالله، وكفى بالله وكيلاً.

أرجو يا إخواننا! أن تتصوروا حال هاجر وهي في مكان مقفر مظلم، إذا جاء الليل تسمع دوي الريح! وليس معها إلا وليدها وقد وجف ضرعها، وكاد الولد يموت عطشاً وجوعاً، فلما رأته يموت قالت: أذهب فأعلل نفسي حتى يموت.

لا تريد أن تراه وهو يموت، تنصرف وتأتيه بعد ساعة أو ساعتين ويكون قد مات فتدفنه، وينتهي الأمر.

فذهبت تبحث عن ماء، فرجعت فإذا جبريل عليه السلام قد ضرب بعقبه الأرض -وقيل: بجناحه- فانفجرت عين زمزم وجعلت تفور، وهذا فرج عظيم بعد شدة مدلهمة، وهكذا رزق الله تعالى أوليائه من حيث لم يحتسبوا.

ولا تقل هذا خاص بالأنبياء، فهذا لأولياء الله عز وجل في كل وقت، إذا حسُن توكلك عليه، كما حصل لـ خبيب بن عدي في موقعة بئر معونة، لما جاء رجل من بني الحارث وقال للنبي عليه الصلاة والسلام: (لو أرسلت من يعلم الناس القرآن.

قال: إني أخاف عليهم قومك؟ قال: لا، أرسلهم، وأنا جار لهم) أي: هم في حمايتي، فأرسل الرسول سبعين قارئاً للقرآن من خيار الصحابة آنذاك، كان منهم عاصم بن ثابت قريب لـ عمر بن الخطاب، وكان منهم خبيب بن عدي، لكنهم بعد أن ساروا قليلاً سمعوا وقع أقدام الخيل وراءهم، فقال عاصم بن ثابت: هذا أول الغدر.

أول ما جاء الفرسان قالوا: سلموا.

قالوا: لا نسلم.

فقتلوا عاصم بن ثابت الأنصاري وجماعة من الصحابة.

فبقي خبيب بن عدي ورجلان على خيولهم، فأعطوهم العهد والميثاق ولهم الأمان.

فنزلوا على العهد والميثاق فعندما نزلوا كتفوهم، فأحد هؤلاء الثلاثة قاتل وظل يقاوم حتى قتلوه، فبقي اثنان: خبيب بن عدي والآخر.

أما خبيب بن عدي فقد كان من خبره أن هؤلاء الناس باعوه لبني الحارث، وكان خبيب قد قتل رجلاً من بني الحارث عظيماً في الجاهلية، فأردوا أن يقتلوه قصاصاً.

فلما سلموه لبني الحارث كانت الأشهر الحرم قد دخلت، وكان العرب يوقرون الأشهر الحرم، فأجلوا قتل خبيب بن عدي إلى انتهاء الأشهر الحرم، ووكلوا به امرأةً كسجان عليه- فهذه المرأة في يوم من الأيام طلب منها خبيب بن عدي موسىً يستحد بها -لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد وقت لشعر العانة ألا يبقى أكثر من أربعين يوماً- فهذه المرأة نامت وغفلت عن ابنها، وقد كان على حجرها، فنزل ودخل إلى خبيب بن عدي، فوضعه خبيب على حجره، فأفاقت المرأة فنظرت، فإذا الولد على رجل خبيب بن عدي فشهقت، وخافت أن يقتله خبيب بالموسى.

فقال لها: أتظنين أني قاتله؟ والله! ما كنت لأفعل ذلك.

فقالت المرأة: والله! ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب، لقد رأيته يوماً يأكل عنباً وليس في مكة ثمرة، والرواية الأخرى: ما على الأرض حبة عنب؛ لأن مكة البلد الوحيد الذي تجد فيه فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، قال تبارك وتعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:٥٧] ليس عندهم أزمة في أي شيء، يؤكل فيها العنب والبطيخ، والفاكهة كلها في غير أوانه {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:٥٧] إذا كان لا يوجد في مكة حبة عنب، إذاً لا يوجد على الأرض حبة عنب.

المهم أن هاجر عليها السلام كما تقدم ذهبت تبحث عن الماء وبدأت السعي بين الصفا والمروة.

ويا لضخامة الأمر على هذه المرأة الوحيدة! يا ليت معها زوجاً يهون عليها، لكنها امرأة وحيدة لا تجد من يعينها ويسقي وليدها.

عليك أن تستحضر كل تلك المعاني وأنت تسعى بين الصفا والمروة، في ظل التكييف الممتاز، والرخام الجميل، فتفرغ العبادة من مضمونها، تطوف وتتمنى أن تنتهي من السعي لشدة الإعياء، وتقول للذي بجانبك: عد معي، نحن وصلنا أي شوط؟! الشيخ الألباني رحمه الله حججت معه سنة (١٤١٠هـ)، وكان في هذا الحج زحام شديد، ما رأيت مثل هذا الزحام قط، أنا شاب والشيخ الألباني رحمه الله كان سنه في ذلك الوقت حوالي (٨١) سنة.

طبعاً لما أتيت لأسعى صعدت إلى الدور الثاني؛ لأنه من المستحيل أن تجد في الأسفل موضعاً لقدمك، بعدما رجعنا إلى منى، ودخلت لأسلم على الشيخ في خيمته وجدت على