للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ما صبر عبد على ظلم)]

قال: (وما صبر عبدٌ على مظلمةٍ إلا زاده الله بها عزاً): يعطي له هيبةً في قلوب الخلق؛ لأن رد السيئة بالسيئة أسهل ما يكون، وأنت تجهل على من جهل عليك هذا أسهل؛ لكن أن تكتم غيظَك، وتحلُم على من أساء عليك، فهذا لا يستطيعه إلا الرجال.

معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بعدما حصل الخلاف الذي حصل واستتب له الأمر، قام يخطب في المسلمين، وكان المسلمون يريدون عبد الله بن عمر أميراً للمؤمنين، وعبد الله بن عمر رجلٌ من رجالات الآخرة، حتى قال ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وغير واحدٍ من الصحابة: (ما منا من واحدٍ إلا تقلبَت به الدنيا وتقلب بها إلا ابن عمر؛ إنه على العهد الأول) أيام كان الرسول موجوداً.

فهذا رجل من رجالات الآخرة أتته الخلافة تحت قدمه فأباها ورفضها، ولو أن عبد الله بن عمر رشَّح نفسه للخلافة لأخذها بإجماع، ليس لأن أباه عمر، بل لأنه عبد الله بن عمر نفسه، وبسبب عمله.

فـ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لما استتبت له الخلافة، قال: (إننا أحق بهذا الأمر من فلان وأبيه)، يعرض بـ ابن عمر، فالكلمة أغاظت ابن عمر، وكان جالساً في الناس، قال: (فحملت قبوتي، وأردت أن أقوم، فأقول له: بل مَن جالَدَك وأباك على الإسلام أحق بها) قال: (ثم خشيتُ أن تكون فتنة، فذكرتُ ما عند الله، فجلستُ).

أي: ذكر الجنة، وذكر الصبر.

وهناك ناسٌ يستفيضون في أعراض الخلق، ولا يردعهم رادع من تقوى ولا سلطان، فمثل هذا إن أردت أن تحفظ عزتك وكرامتك لا ترد عليه، وقديماً قيل: (لا تجاري السفيه بسفهٍ مثله) فهذا يدل على أنك رضيت سلوكه فحذَوت مثالَه إذ لو كنت تنكر عليه سفاهته فلم تسافهتَ عليه؟! يقابلني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيبا يزيد سفاهةً فأزيد حلماً كعودٍِ زاده الإحراق طيبا وهل تحس بحلاوة البخور إلا إذا أشعلت النار فيه؟! فما تشعر بقيمة الرجال إلا في الغضب، فالرجل نقي المعدن الذي لا يجتاله الغضب عن الحق ولو قليلاً، ولذلك يعرف الناس في هذه المواقف، فإذا رأيت رجلاً متحولاً متقلباً، إذا أغضبتَه انقلب عليك، فإذا أرضيتَه كان كالنعل في قدمك، اغسل يديك منه، لأنه لا خير فيه.

ولذلك مدح الله تبارك وتعالى هذا الصنف قال: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران:١٣٤] كلمة (الغيظ) فيها حرف الظاء وهو من حروف الاستعلاء والتفخيم، وشكل الحرف نفسُه يوحي لك بالمعنى، فتحس أنه قربة ملأى، أي: ممتلئ غيظاً؛ لأن الغيظ يملأ الإنسان، ودائماً حروف الاستعلاء تحس فيها بفخامة {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} ليس هذا فقط.

بل أيضاً: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:١٣٤] لأنك لا بد أن تصرف الغيظ، ولا يكفي أن تكظم فقط؛ لأنك إن كظمت مرة بعد مرة ستنفجر، لذلك سن بعد الكظم العفو؛ لأنه لا بد من تصريف للغيظ {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:١٣٤].

وهذا التصريف ليس سهلاً، وقليل من الناس هو الذي يصرِّف غيظ، ولهذا رغَّبك في التصرف فقال: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:١٣٤] كأن كظْمَك ثم صَرْفَك لهذا الغيظ بالعفو إحسان، والإحسان هو أعظم الدرجات كلِّها، فإن المراتب ثلاث: - إسلام.

- إيمان.

- إحسان.

وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان، فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وقليل من الخلق هم أصحاب هذه المرتبة؛ بل هم أندر من الكبريت الأحمر.

إذاً: الصبر على المظلمة عز بما يجعل الله لك من الهيبة في قلوب الخلق، ولذلك أُثِر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول: (إن الرجل ليكبُر في نظري حتى يتكلم) طالما أنه ساكت فهو كبير؛ لأنك لا تدري أهذا عاقل أم مجنون؟ كلامُه در أم بعر؟ فإذا تكلم الإنسان وَزَنَ نفسَه؛ لكن كلما كان الإنسان ساكتاً ظَلَّ كبيراً.

فلذلك الرسول عليه الصلاة والسلام تثبيتاً لأصحاب هذه المرتبة أقسم عليها، أي: ليس ردُّك وانتقامك من صاحبك دليل العز والغلبة، بل بما يضعه الله لك من الهيبة في قلوب الخلق.

(وما صبر عبدٌ على مظلمة إلا زاده الله بها عزاً).