إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
قال الله تبارك وتعالى:{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[يوسف:٢١] الله غالبٌ على أمره، يعني: إرادته تغلب إرادة غيره، ومشيئته تغلب مشيئة غيره؛ لأن الله تبارك وتعالى له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وكل صفة في العبيد حاشا الأنبياء فهي صفة نقص، فإذا كان هناك رجلٌ ذكي ففي الكون من هو أذكى منه، وهو ناقص بالنسبة لغيره، فإرادته تناسب نقص صفته، وإرادة الله عز وجل تناسب كمال صفته، فالله غالب على أمره، وهذا الذي حدث في حياة يوسف، كيف غلب أمره في قصة يوسف كلها؟ قال يعقوب عليه السلام:{قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا}[يوسف:٥] رؤياه وقد منعه أبوه، لكن غلب أمر الله فقص على إخوته فكادوا له، فرموه في الجب بقصد إقصائه عن وجه والده، وأرادوا أن يخلو لهم وجه أبيهم، فما تم لهم ما أرادوا؟ غلب أمر الله عز وجل وضاق عليهم قلب أبيهم، ونحن نعلم أن حسن المعاملة، هذا معتمد على عمل القلب، فإذا دخل البغض على قلب رجل، لا يستطيع أن يتبسم في وجه من يبغضه، فكل الجوارح تخضع لعمل القلب، ثم دخل قصر العزيز وراودته المرأة، فلما رأت العزيز بادرت بالهجوم والاتهام، وأرادت أن تبرئ نفسها:{قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[يوسف:٢٥] بقصد أن تبرأ من هذا الذنب، فغلب أمر الله عز وجل وشهد شاهد من أهلها فاتهمت، ثم دخل السجن، وذَكَّر الساقي، فقال له: اذكرني عند ربك، فغلب أمر الله عز وجل ونسي الساقي هذا ولم يذكر إلا بعد أمة من الزمان، ثم بعد مرة من الزمان تذكر يعقوب عليه السلام يوسف، لما أبى أن يعطيهم المتاع إلا أن يأتوا بأخ لهم من أبيهم، فلما ذكروا أخا يوسف هاجت الذكرى عند يعقوب عليه السلام، وقال:{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}[يوسف:١٨]{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}[يوسف:٨٤]، وهذا بعد مدة من الزمان، وأصروا على الذنب، لكن كان مبدؤهم أن يفعلوا الفعلة ثم يتوبوا، لكنهم فعلوا الفعل ولم يتوبوا، بل أصروا على الذنب، ونفوا عن أنفسهم الجناية، لكنهم عادوا فاعترفوا لما غلب أمر الله، {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ}[يوسف:٩١]{يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ}[يوسف:٩٧] فهذا اعتراف بالذنب بعد الإصرار على عدم الاعتراف.