للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[رحمة الله وسعت كل شيء]

(فما إن خرج غير بعيد حتى قبض، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ملائكة الرحمة يقولون: خرج إلى ربه تائباً، وملائكة العذاب يقولون: قتل مائة نفس، فأرسل الله إليهم حكماً: أن قيسوا المسافة بين الأرضين، فإلى أيتها كان أقرب فهو من أهلها) ولما كان الرجل أقرب يقيناً إلى أرض العذاب: (أمر الله الأرض -أن تطوى من تحته- (فأوحى لهذه: أن تقاربي، ولهذه: أن تباعدي.

فلما قاسوا المسافة بين الأرضين وجدوه أقرب إلى أرض المغفرة بشبر واحد، فغفر له فدخل الجنة).

إذاً: أي إنسان عاص مهما بلغت ذنوبه، إذا علم أن رحمة الله تبارك وتعالى شملت مثل هذا العاصي فهو أقرب منه، لا تستعظم ذنبك أبداً، واعلم أن من صفات الله تبارك وتعالى (الغفور الودود) وتأمل في هذه الصفة (ودود) أي: كثير الود، مع أنه غني عن العبد؛ ولكنه يتودد إليه ويفرح بتوبته، كما قال صلى الله عليه وسلم -والحديث في الصحيحين والسياق لمسلم-: (لله أفرح بتوبة عبده العاصي من أحدكم بأرض فلاة معه راحلته وعليها طعامه وشرابه) يضرب الرسول عليه الصلاة والسلام المثل بفرحة الله تبارك وتعالى إذا تاب العبد ورجع إلى ربه كيف تكون فرحة الله بتوبة العبد، مع غنائه التام عن العبيد جميعاً فقال: مثل فرحة الله تبارك وتعالى بالعبد العاصي كمثل رجل معه راحلته، وعليها طعامه وشرابه (فوجد شجرة فاستظل بها فنام، فلما استيقظ لم يجد راحلته، ولم يجد طعامه وشرابه -ومعروف أن الإنسان إذا تاه في الصحراء مات إذا لم يكن عالماً بدروبها- بحث عن راحلته فلما يئس منها وعلم أنه هالك قال: أرجع إلى مكاني وأموت فيه، فلما رجع إلى مكانه إذا به يجد راحلته وعليها طعامه وشرابه، فقال اللهم أنت عبدي وأنا ربك! قال عليه الصلاة والسلام: أخطأ من شدة الفرح) فانظر هذا الرجل الذي أخطأ من شدة الفرح لما وجد راحلته -فلله المثل الأعلى- فالله تبارك وتعالى يفرح بعودة العاصي إليه كفرح هذا الرجل براحلته لما وجدها.

فكيف وربك تبارك وتعالى يتودد إليك بمثل هذه النعم، وبمثل هذه الرحمة وهو غني! أفلا تبادر وأنت أحوج إليه؟! كما قال تبارك وتعالى في الحديث القدسي الجليل: (يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).

فإذا كنا نعلم أن معصية العبد إنما تضره ولا تضر ربه تبارك وتعالى، ومع ذلك فالله تبارك وتعالى يفتح له الباب بمثل هذا الفتح فكيف لا يسارع إلى ربه تبارك وتعالى؟! فهذه فرصة يا إخواننا! أيها العاصي أقبل! مهما أسرفت فإن الله تبارك وتعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] حتى الشرك يغفره تبارك وتعالى إذا رجع العبد إلى توحيد الله عز وجل وتاب منه.

إذاً: الوعيد لا يتحقق إلا بترك التوبة، كل وعيد في القرآن يسقط بالتوبة، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.

نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يجعل ما قلناه وما سمعناه باباً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.