[قصة إسلام أبي ذر الغفاري وما ورد فيها من صور الأخوة]
وفي الصحيحين قصة عجيبة تريك هذه الريبة التي كان يشعر المسلمون بها في مكة، من حديث ابن عباس رضي الله عنها قال:(أخبرني أبو ذر عن أول إسلامه قال: علمت أن رجلاً خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي -وأخوه هذا أنيس، أسلم أيضاً وهو أخوه الوحيد- فقلت لأخي: ارحل إلى مكة -وهو من غفار- فأعلم لي خبر هذا الرجل، قال: فركب أخوه ورحل ثم رجع إليه بعد أيام وقال له: لقد رأيت رجلاً يحث على مكارم الأخلاق، ويقول كلاماً ما هو بالشعر -وأنيس أخوه كان شاعراً- قال: ويقول كلاماً ما هو بالشعر، فقال له أبو ذر: ما شفيتني، ثم جهز رحله وأخذ شنةً فيها ماء ورحل إلى المسجد الحرام، قال: فمكثت في المسجد لا أسأل أحداً؛ لأنه إن سأل ضرب وعذب، وكانوا يتربصون بكل من يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: فمكثت في المسجد يومي هذا لا أسأل أحداً، فمر بي علي بن أبي طالب فقال: الرجل غريب؟ اتبعني، قال: فتبعته ما يسأل أحد منا الآخر شيئاً، فلما أصبح الصباح رجعت إلى المسجد ما أسأل أحداً شيئاً، فمر بي علي، فقال: أما آن للرجل أن يعرف منزله؟ اتبعني، قال: فتبعته ما يسأل أحداً منا الآخر شيئاً، فلما كان في اليوم الثالث رجعت إلى المسجد ما أسأل أحداً -كل هذا وهو خائف- قال: فتضعفت رجلاً منهم -نظر إلى رجل فوجده ضعيفاً فقال في نفسه: لو سألت هذا فإني آمن غوائله، فلن يؤذيني- فقلت له: أين ذلك الذين يقولون إنه صبئ؟ قال: فأشار الرجل إلى القوم وقال: الصابئ الصابئ قال: فقام القوم عليَّ بكل مدرة وعظم وانقلبوا عليَّ حتى كأني نصب أحمر -من كثرة الدماء التي سالت على وجهه- قال: فمر بي علي وقال لي: أما آن للرجل أن يعرف منزله؟ ألا تخبرني بخبرك؟ فقلت له: إن أمنتني أخبرتك؟ قال: لك ذلك، قال: إني أسأل عن ذاك الرجل الذي يزعمون أنه نبي، قال: فاتبعني فهذا وجهي -أي: أنا ذاهب إلى هناك- وإنني سأسبقك، فإن رأيت ما سيؤذيك فسأصلح نعلي، فإن رأيتني أُصلح نعلي، فانطلق ولا تنحني عليَّ -وفي رواية البخاري قال:- فإن رأيتني أريق الماء فانصرف ولا تنحني عليَّ- قال: فتبعته فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعت منه، فأسلمت مكاني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب إلى قومك وانتظر خروجي -أي: لا تجهر بدعوتك حتى لا ينالك الأذى وانتظر خروجي وظهور دعوتي- قال أبو ذر: أما والله لأصرخن بها فيهم، فخرج إلى المسجد الحرام وقال: أيها الناس! أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال: فانقلب المسجد عليَّ، فما زالوا يضربونني حتى الموت حتى انكب عليَّ العباس وقال: أيها الناس! أما تعلمون أنه من غفار؟ وأن طريق تجارتكم إلى الشام تمر بغفار؟ قال: فتركوني، فلما أصبحت صرخت فيهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فانقلبوا عليَّ ففعلوا بي ما فعلوا بالأمس فأكب العباس عليَّ وقال: أما تعلمون أنه من غفار؟ وأن طريق تجارتكم إلى الشام تمر بغفار؟ فأنقذني منهم، -وفي رواية مسلم - قال: فانقلبوا عليَّ بكل مدرة وعظم حتى كأني نصب أحمر فهربت منهم واختبأت في المسجد ثلاثين يوماً ليس لي طعام إلا ماء زمزم، حتى تكسرت عكن بطني، ولم يعد على كبدي سخفة جوع -العكن: كسرات البطن إذا سمن المرء، وكان المتصور أن رجلاً يعيش على الماء يصير جلداً على عظم، وإنما هذا تكسرت عكن بطنه، يعني: أصبح له كرش وأصبح اللحم يتكسر من السمن، ولم يعد على كبدي سخفة جوع، أي: لم يشعر بالجوع - فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عن ماء زمزم: إنها طعام طعم، وشفاء سقم).
فانظر إلى إسلام أبي ذر وإلى ما كانوا يلقونه إذا جهر المرء بدعوته، يقول له علي:(اتبعني فإن رأيت ما أخاف عليك انحنيت أصلح نعلي وانصرف أنت) فلا يستطيع الرجل أن يمشي مع أخيه، ولا أن يستمتع بهذه الأخوة، ولا أن ينصر أحدهم الآخر؛ لأنهم جميعاً مستضعفون، ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع شمل هؤلاء المستضعفين:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[الحشر:٩].