[إرشاد النبي لعبد الله بن عمرو]
قال: فجاءني الرسول عليه الصلاة والسلام في منزلي وقال: (يا عبد الله! بلغني أنك تصوم النهار؟ قال: نعم، وتقوم الليل؟ قال: نعم) فإذا كان كذلك فمتى ينام، ومتى يذهب للعمل، ومتى يأكل؟ الله عز وجل هو الذي يزيل التعب عن البدن وليس كثرة النوم، فبعض الناس ينام الساعات الطويلة ثم يستيقظ من النوم وهو مرهق جداً، وقد كان بعض السلف يدعو فيقول: اللهم اكفنا من النوم باليسير.
وكان بعضهم ينام قليلاً لكنه يستيقظ وهو نشيط، فما هو الدواء الذي يجعلك إذا نمت أن تقوم نشيطاً؟ الدواء هذا رواه الشيخان وهو: أن فاطمة رضي الله عنها كانت تدق النوى حتى تورمت يداها فجاء أعبد من البحرين، فبلغ ذلك علي بن أبي طالب، فقال لـ فاطمة: اذهبي إلى أبيك فاستخدميه، فجاءت إلى أبيها تطلب خادماً، والبنت الوحيدة تكون عزيزة كثيراً على الأب، وإذا كان هناك أب يحب ابنته أقصى الحب فإنه لن يبلغ حب النبي صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة، ورضا فاطمة من رضا الله عز وجل، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها)، ومعروف أن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم إيذاء لله عز وجل، وكان شديد الحب لها، فجاءته تستخدمه، وأرته يديها، فقال لها: (بنيتي! أفلا أدلك على خير من خادم؟) فما هو هذا الشيء الذي هو خير من خادم؟ قال: (إذا أويت إلى فراشك، فسبحي الله ثلاثاً وثلاثين، واحمديه ثلاثاً وثلاثين، وكبريه أربعاً وثلاثين، فذلك خير لك من خادم).
كيف ذلك؟ لأنها عندما تقول هذه الأذكار فإن الله عز وجل يزيل عنها التعب، فتقوم نشيطة، فيكفيها هذا عن الخادم، قوله: (خير من خادم) قيل: لأن الحاجة إلى الناس ذل حتى ولو كان عبدك، كونك تقول له: اعمل كذا.
هذا ذل، فالعز في الاستغناء عن الناس.
عبد الله بن عمرو رجل ذاكر وهو في معية الله تبارك وتعالى، فإذا نام وأغفى فإنه كإغفاءة الطائر، فالله عز وجل يذهب التعب عن بدنه ويستأنف العمل.
فالرسول عليه الصلاة والسلام أول ما رآه بهذا الجد، قال له عبارة مهددة، وهذا من الفقه الذي نتعلمه من الرسول عليه الصلاة والسلام، فلو جاءك شخص وهو خائف من النار ومن عذاب الله فلا تقرأ عليه آيات النار بل آيات الترغيب، لكن إذا جاءك وهو مستهين وليس مهتماً فاتل عليه آيات النار.
مرة جاءني رجل كان في الأردن، غاب في الأردن عشر سنوات، فقال لي: أنا ما تركت ذنباً إلا ارتكبته واستكثرت، فقد شربت الخمر، وزنيت، وقتلت، وكذلك مارس هذه المعصية المرذولة بعد عودته لمدة سبع أو ثماني سنوات فقال لي: لي توبة؟ فسكت قليلاً، فأول ما سكت، قام فاقترب مني، وقال لي: ماذا يعني سكوتك؟ ليس لي توبة؟ فرأيت وجهه قد احمر وعيناه اغرورقتا بالدمع، فلو أني قرأت عليه آية من النار فإنه سيموت، فسكت ولم أتكلم، فرأيته قد توتر وبدأ جسمه يرتعد، لأنه ارتكب ذنوباً كثيرة وأراد أن يتوب، فرأيت علامات التوبة عليه، فعلمت أن هذا الرجل لو قرأت عليه آية من آيات النار سيموت، فقرأت الآية التي في سورة الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:٥٣]، فبدأ الرجل يستريح شيئاً فشيئاً، وأنا أتكلم أريد كذلك أن أبين له خطورة الأمر الذي عمله لكي لا يستهين، فهذا الرجل لو قلت له: لا توبة لك، وتقول: لأنك سرقت وظلمت يا ظالم يا فاسق، فإنه ربما يموت فيها.
الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن عبد الله بن عمرو يصوم النهار ويقوم الليل، الذي ترك المرأة في ليلة الزفاف ما ينفع معه إلا التهديد، فقال له: (لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، كلام قوي جداً، فمراجعة الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمرو تدل على أنه لا يريد أن يسمع الكلام فقط، وإنما يريد أن يظل على هذا الجد، فقال له: (من رغب عن سنتي فليس مني) فهذا تهديد.
الرسول عليه الصلاة والسلام لما رأى امرأة عثمان بن مظعون عند عائشة، فرآها رثة الثياب ذابلة، فقال: (يا عائشة! ما أبذ هيئة خويلة؟) ما الذي جعل هيئتها بهذه الرثاثة؟ قالت: يا رسول الله! إنها عند رجل يصوم النهار ويقوم الليل، فأهملت نفسها وأضاعتها، فأرسل لـ عثمان بن مظعون، قال: (يا عثمان! أرغبة عن سنتي؟ قال: يا رسول الله! بل سنتك أطلب، قال: فأنا أنام وأقوم، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) يقول هذا الكلام القوي للصحابي لكي يوقفه؛ لأن عنده شغفاً وإقبالاً شديداً، فالذي عنده إقبال شديد لا يصده شيء هين، إنما يصده شيء قوي، (فمن رغب عن سنتي فليس مني) ثم قال له: (إن لكل عمل شرة وفترة).
الشرة: هي شدة الإقبال، والفترة: هي الشعور بالفتور، وفي الفترة قد يتحول الشخص عن طريق السنة إلى طريق البدعة، وفي الفترة يشعر المرء بالخمول والملل، ويريد أن يعتزل ويقفل الباب على نفسه، فلا يريد أن يكلم أحداً ولا أن ينظر إلى أحد.
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (لكل عمل شرة وفترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد هدي، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك).
دخل الرسول عليه الصلاة والسلام على زينب فوجد حبلاً مربوطاً بين ساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ فقيل له: هذا حبل زينب، تقوم الليل إلى أن تعجز قدماها عن حملها فتمسك بالحبل وتقرأ وتواصل الصلاة، نحن نذكر هذه الأحاديث للنساء، لأن العبادة والجد قليل في النساء، قالوا: وذلك بسبب الأولاد والزوج والمطبخ، وهذا الكلام غير صحيح، فالمرأة لابد أن تعمل لربها وأن يعينها زوجها على ذلك، فلابد أن يكون لها فترة تخلو فيها بالله تبارك وتعالى، لكي تواصل الجد والعطاء، فـ زينب رضي الله عنها من كثرة التعب تمسك بالحبل لكي تستريح، فقال عليه الصلاة والسلام: (حلوه، عليكم من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا) أي: إن الله لا يمل من إعطاء الثواب حتى نمل من العمل.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمرو بن العاص: كيف تقرأ القرآن؟ قال: أقرأ القرآن كل ليلة؛ فقال له: اقرأ القرآن في شهر؟ قال له: إني أجد بي قوة، فقال: اقرأه في عشرة أيام، قال له: إني أجد بي قوة، قال: اقرأه في ثلاثة أيام، وفي الرواية الأخرى قال له: (فإن من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه).
ثم قال له: كيف تصوم؟ قال: أصوم كل يوم.
فقال: صم ثلاثة أيام من الشهر، قال له: أقدر، فجعل يرقى به إلى أن قال له: (صم صيام أخي داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، فذلك خير الصيام).
كان عبد الله بن عمرو شاباً في تلك الأيام، وكثرة العبادة والقوة فيها إنما تكون في الشباب، كانت حفصة بنت سيرين تقول: (يا معشر الشباب! اعبدوا الله في الشباب فإني رأيت العبادة في الشباب).
فالشاب يستطيع أن يتحمل الأشياء الشاقة، لكن من بلغ ثمانين سنة اشتكى من غير علة، فظهره يبدأ ينحني، ولا يستطيع أن يمشي إلا على عكاز، ويقعد على كرسي في صلاة الفرض.
بعض الشباب عندما تقول: اعبد الله يقول لك: إن شاء الله لما أتقاعد على المعاش سأعبد ربنا وسأتفرغ للعبادة، لأني لن أذهب إلى دوام ولا إلى شغل ولا غيره، فأول ما يتقاعد على المعاش يقعد على القهوة، فتقول له: أنت كنت تقول: سأقعد أعبد ربنا، فيقول لك: أنا أشعر بملل وزهق، لماذا؟ قال: أنا طول عمري شغال، ما تعودت أقعد القعدة هذه.
عبادة الله مع الوقت تصير عادة وملكة، فالذي تعود على الصلاة من صغره فإن الصلاة تكون عليه سهلة، أما لو كان مفرطاً في حدود الله عز وجل منذ صغره فإذا أراد أن يعبد الله وهو كبير فإنه لا يستطيع فالعبادة في الشباب.
فـ عبد الله بن عمرو بن العاص لم يعلم أنه عندما يشيخ ويكبر يعجز عن هذا الجد، فكان لا يستطيع أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، ضعُف، فكيف كان يعمل؟ كان يفطر عشرة أيام من أجل أن يتقوى، وبعد ذلك يصوم عشرة أيام، لأنه لا يستطيع أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، وإذا كان مثلاً يقرأ القرآن في ثلاث، فإنه كان يقرأ في اليوم عشرة أجزاء مثلاً، ولكن بعد أن كبر لم يعد يستطيع أن يقرأ كما كان يقرأ في شبابه فكان يقرأ المصحف في سبعة أيام، وكان يقسمه بين هذه السبعة الأيام حتى يكمله.
وكان يقول: (يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لماذا لم يترك العمل ويستريح وعليكم هدياً قاصداً كره عبد الله بن عمرو بن العاص أن يقل عمله عما تركه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلابد ألا يقل عمله حتى لا يلقى النبي صلى الله عليه وسلم وقد قل عما تركه عليه، لكن عبد الله بن عمرو بن العاص ندم أنه لم يقبل الرخصة من النبي صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يجعل ما قلناه وما سمعناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.