للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شبه العلمانيين حول حديث الرجل الذي أمر أبناءه بحرقه وذره والرد عليها]

لقد قام العلماني وجمع أحاديث مختارة من صحيحي البخاري ومسلم، فهي متفق عليها، والعلماء يقولون: إن الأحاديث المتفق عليها التي رواها البخاري ومسلم هي أقوى الأحاديث، فيأتي فينتقي أقوى هذه الأحاديث ويضعفها، ويقول: هي مكذوبة! ويثير عليها شبهات لا تنطلي ولا تنفق في سوق أهل العلم، منها: الحديث الرائع الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن أبي سعيد الخدري، وهو مروي أيضاً عن حذيفة بن اليمان، وعن عقبة بن عامر الجهني، وعن معاوية بن حيدة، هؤلاء جميعاً رووا هذه القصة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (كان رجل فيمن كان قبلكم رزقه الله مالاً وولداً، وفي رواية: أغاثه الله مالاً وولداً لم يعمل خيراً قط -وفي مسند الإمام أحمد- إلا التوحيد) وفي سنن الدارمي من حديث معاوية بن حيدة: (أن هذا الرجل لم يكن يدين بدين، وقد انفرط من عمره زمان، وبقي من عمره شيء، ولم يعمل خيراً قط، وذكر عقبة بن عامر: أنه كان يعمل نباشاً للقبور) بعد ما تدفن الجثة يأتي ويسرق الكفن، وفي الصحيحين: (أن الرجل كان يسيء الظن بعمله، فجمع أولاده وقال لهم: أيُّ أب كنت لكم؟ قالوا: يا أبانا كنت خير أب، قال: فلن أعطيكم شيئاً من مالي، حتى تعطوني الميثاق أن تفعلوا ما آمركم به، قالوا، وما تأمرنا؟ قال: إنني لم أعمل خيراً قط ولئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين.

قالو له: ماذا تريد؟ قال: إذا أنا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في يوم عاصف، فإن الله إن قدر عليَّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل صنعوا ما أمرهم أبوهم، قاموا فحرقوه حتى صار فحماً ودقوه وذروا نصفه في البحر، ونصفه في البر، فأمر الله عز وجل البحر أن يرد ما أخذ، وأمر البر أن يرد ما أخذ، وقال له: كن، فكان، فلما وقف بين يديه قال: عبدي ما حملك على أن فعلت ذلك؟ قال: خَشْيَتُك يا رب، قال: أما وقد خشيتني فقد غفرت لك).

يا عباد الله! ما هو المعنى المستنكر في هذا الحديث؟! أدعوكم إلى أن تجتهدوا وفيكم من هو أعقل منه، وفيكم الأذكياء، فليقل لي واحد منكم ذكي عاقل فاهم لقن: أي معنى مستنكر في هذا الحديث حتى يقال: إن هذا حديث مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم؟! العلة التي أوردها هذا الكاتب المغبون الخاسر، قليل الحظ من الفقه والفهم، هي: أن هذا الحديث فيه أن الرجل أنكر قدرة الله عز وجل، ومنكر القدرة كافر، ونحن نعلم أن الكافر لا يدخل الجنة، هكذا الأصول؛ الرجل إذا مات على الكفر لا يدخل الجنة هكذا أعلمنا ربنا عز وجل، فهذا الحديث يخالف الأصول قرآناً وسنةً في أن الكافر لا يدخل الجنة.

العلماء يقولون: لا يجوز الاعتراض على ظاهر النص في بداءة الرأي، لا بد من إعمال النظر، والنظر هل هذا المعنى الذي أورده صحيحاً أم لا؟ وإذا كان لا يعلم فلماذا لم يطالع كتب أهل العلم، وقد قال أهل العلم في ذلك كلاماً في غاية الوضوح؟ أفما وسعه ما وسع أهل العلم جميعاً، وكلهم يصدق هذا الكلام؟! الرجل أسرف على نفسه، كان يعمل نباشاً، وكان مسرفاً في المعاصي، فأدركه الخوف من الله عز وجل، والخوف من الله عز وجل هو من المقامات العلية، لا يحققها إلا المؤمنون.

وقال الله -عزَّ وجلَّ-: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٧٥]، فإن كان مؤمناً خاف ربه.

وقال ربنا عز وجل عن الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:٥٠].

وقال تبارك وتعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:٤٦].

فكلما عظم إيمان العبد عظم خوفه من الله عز وجل، وكيف لا وأنت امتثل واعتبر بكلام عمر رضي الله عنه لما كان يقول: ليت أم عمر كانت عقيماً! ليت أم عمر، لم تلد عمر! ليتني كنت قشة! لو كان لي قلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله يوم ألقاه، يقول هذا عمر؛ فالآمن من عذاب الله عز وجل، والآمن من مكر الله هو الأقل إيماناً، والذي يتحرك في الدنيا وهو آمن! مَن الذي أعطاه صكاً بالأمان؟! كيف لا يخاف على نفسه؟ ولذلك الإمام البخاري أورد هذا الحديث في كتاب الرقاق، قال: باب الخوف من الله، وأبرز هذا الحديث، وقد رواه في ثلاثة مواضع من صحيحه هذا أحدها.

فالرجل غلب عليه الخوف من الله، ومعلوم أن الخوف إذا غلب على إنسان فقد جل عقله، وصواب تفكيره، وليس هذا مخصوص بالخوف فقط، بل بالفرح الشديد أيضاً.

العبد إذا فرح فرحاً شديداً أذهله، وإذا خاف خوفاً شديداً أذهله.

وفي ذلك أحاديث يظهر منها أن هناك إنكاراً لقدرة الله، أو إنكاراً لعلم الله، منها: الحديث الذي رواه مسلم، من حديث محمد بن قيس بن مخرمة، قال: قالت عائشة لي أو لنا: (ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: بلى قالت: إنه لما كان في ليلتي التي هي لي، جاء ففتح الباب رويداً رويداً ومشى رويداً رويداً، فما هو إلا أن وضع جنبه على الفراش حتى قام رويداً رويداً، وأخذ نعله رويداً رويداً، ومشى رويداً رويداً، وفتح الباب رويداً رويداً، وانطلق، قالت: فانطلقت وراءه فإذا هو ذاهب إلى البقيع، فذهب إلى البقيع فرفع يديه ثلاث مرات يرفعها ويخفضها، قالت: ثم انحرف راجعاً؛ فانحرفت، فأسرع؛ فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر- أي: مشى الهوين- فأحضرت، وسبقته فلما دخل عليها حجرتها إذا أنفاسها تتلاحق وتتردد، فقال: ما لك يا عائش؟ حشيا رابية؟ فقالت له: لا.

فقال لها: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير، فقالت: يا رسول الله! مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ قال: نعم) فما يقولون في عائشة؟! قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فها هي عائشة رضي الله عنها كانت تجهل أن الله أحاط علمه بكل شيء، فقالت: (يا رسول الله! مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ -أي: مهما كتمنا الله يعلم- قال لها: نعم) فهذا ظاهرٌ أنها تنكر إحاطة الله عز وجل بالعلم، فهل نكفرها، أو يقال: كيف سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولم يقل لها: اغتسلي وانطقي بالشهادتين؟! وأيضاً فقد روى عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (آخر رجل يخرج من النار ويدخل الجنة، رجل يمشي مرة ويكبو مرة، وتدفعه النار مرة، فلما خرج منها التفت إليها وقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من العالمين، فرفعت له شجرة تحتها ماء بارد، ولها ظل ظليل، فقال: رب! ادنني من هذه الشجرة، فلأستظل بظلها، وأشرب من مائها، فقال الله عز وجل: عبدي! إن أدنيتك منها تعاهدني على أن لا تسألني عن شيء بعد ذلك؟ فيقول: إي وعزتك لا أسألك غيرها، فيدنيه من الشجرة فيشرب من مائها ويستظل بظلها، -رجل خارج من النار فوافَقَ ظل شجرة- فرفعت له شجرة هي أحسن من الأولى، فقال الرجل: رب! ادنني من هذه الشجرة، فلأستظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله عز وجل له: ما أغدرك يا ابن آدم! أوَلم تعاهدني على أن لا تسألني عن شيء بعد ذلك، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيقول له: ألا أدنيتك من هذه الشجرة تعاهدني على أن لا تسألني عن شيء بعد ذلك؟! فيقول: إي وعزتك لا أسألك غيرها، فيدنيه منها، ثم تفتح له أبواب الجنان، فيرى المؤمنين يتنعمون ويتضاحكون على سرر متقابلين، فيسكت ما شاء الله له أن يسكت، ثم يقول: رب أدخلني الجنة، فيقول الله عز وجل: ما أغدرك يا ابن آدم! أوَلم تعاهدني على أن لا تسألني عن شيء بعد ذلك؟! وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فقال له: ادخل الجنة -في بعض طرق الحديث:- يدخل الجنة ثم يقول: يا رب! وجدتها ملأى -ليس لي مكان فيها- فيقول له: ادخل الجنة ولك مثل الدنيا، فيقول العبد: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فيضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى تبدو نواجذه، ثم يقول: ألا تسألوني مم أضحك؟ قالوا: مم تضحك يا رسول الله؟! قال: من ضحك رب العزة لما قال له العبد: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فيضحك الله عز وجل ويقول: ألا إني لا أستهزئ بك ولكني على ما أشاء قادر -وفي حديث أبي سعيد الخدري - قال: ادخل الجنة ولك عشرة أمثالها).

ما يقال في هذا الإنسان وهو يواجه ربه ويقول: (أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟) وهل يجوز لعبد أن يخاطب ربه بمثل هذا المقال؟ لما غلب عليه الفرح الشديد فقد عقله.

ولماذا نذهب بكم إلى الدار الآخرة، فهذا مثال حصل في الدنيا، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم (لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم بأرض فلاة، كان معه راحلته وطعامه وشرابه، فنام فاستيقظ فلم يجد راحلته وعليها طعامه وشرابه، فبحث عنها حتى يئس منها، فقال: أرجع إلى مكاني وأموت، فلما رجع إلى مكانه إذا به يجد راحلته وعليها طعامه وشرابه، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، قال صلى الله عليه وسلم: أخطأ من شدة الفرح).

إذا غلب الخوف على إنسان ذهب بعقله أو جله، وإذا غلب الفرح على إنسان كان كذلك.

فهذا رجل -أي: الذي أمر أبناءه بإحراقه- يائس من النجاة، وهو جاهل بإحاطة الله عز وجل وتمام قدرته؛ لكنه كما في مسند الإمام أحمد جاء بالتوحيد، يعني: أن هذا الرجل مسلم لكنه يجهل كمال قدرة الله عز وجل، والذي بلغ به هذا المبلغ هو شدة خوفه، فقال لأولاده ذلك، فلما علم الله عز وجل أن الرجل خائف، وهو أعلم بعبده إذا كان دعياً أو صادقاً، قال: (ما حملك على أن فعلت ذلك) والعبد أراد أن يفلت من ربه، فابتكر هذه الطريقة فقال لأولده: (احرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في الريح في يوم عاص